ان العقل والتفكير لا يصلان بالانسان الى الحقيقة المجردة كما كان يتصور المناطقة القدماء وعلى رأسهم ارسطو ، فلو كان الامر كذلك لما احتاج الناس الى وحي مُنزل يدلهم على حقيقة وجود الله ، حيث ان هذا القصور الانساني يكمله و يوجهه الوحي الالهي الذي لا ياتيه الباطل .
وكذلك فإن المرء لا يمكنه ان يكون موضوعيا وحياديا تماما ، حتى ولو حاول جاهدا وصادقا ذلك . فالانسان ابن بيئته كما يقول علماء الاجتماع ، فهذه البيئة واسلوب التربية والعادات والتقاليد والمعتقد كل هذا يؤثر كثيرا او قليلا في طريقة سبره للامور , بل حتى التجارب الشخصية والعقد النفسية توجه تفكير المرء بشكل او بآخر . وهنا يكمن وجه القصور في عملية التفكير .
فلو اعتقدنا هذا المبدأ وسلمنا به – أي القصور في اوجه التفكير البشري – كان من الاجدى ان نرجع عمليات تفكيرنا الى ثوابت ومعتقدات لا يعتريها الباطل لتقويم عملية التفكير ولكي تحميها من الانحراف . ونحن كمسلمين نؤمن بيقين ان الوحي الالهي هو الثابت الذي نركن اليه في هذه العملية المعقدة . قال الله تعالى : " فإن تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير واحسن تأويلا " . ( النساء : 59 ) ولهذا من الاحرى ان لا نخرج في آراءنا ونظرياتنا من اطار الوحي المعصوم حتى نصل الى نتائج اقرب الى الحقيقة الكاملة .
فالعقول البشرية كثيرا ما تصل الى نتائج مختلفة ومتباينة في الموضوع الواحد ، وقد يؤدي هذا الاختلاف الى خلاف ويتهم كلٌ الاخر بعدم الموضوعية والانحياز والقصور . والحقيقة ان الاختلاف سنة الله في خلقه " ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين " ( هود : 118)
من كل هذا نخرج برؤية مفادها : اذا تفهمنا ان الاختلاف في الاراء بين البشر سنة كونية ، فينبغي لكل من يتفهم هذه الحقيقة ان يحترم الرأي المقابل . وبالطبع فإن هذا الاختلاف ليس بإطلاقه ، بل يتقيد بضابط التسويغ . فهذا الاختلاف ينبغي ان ينطلق من مقدمات تحتمل التفسير بأوجه متعددة ، وليس بإستخدام التأويل القسري .
كانت هذه المقدمة ضرورية للتطرق الى حديثنا عن الاعتصامات ، فإذا ءامنا ان الاختلاف سنة كونية لم نُفاجأ بتعدد الاراء حول اهمية الاعتصامات .
*** *** ***
وصف احد الناشطين والمنادين بالدستور التعاقدي - في مقالة له – الذين يعارضون هذا الدستور ( بالغوغائيين ) , كما وصفت احدى الناشطات المعارضين للدستور ( بالاغبياء ) " فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد اشحةً على الخير "( الاحزاب : 19)
وياسبحان الله ! هؤلاء الناشطين كثيرا ما كانوا يتحفونا بالحديث عن الحرية وحق الانسان في التعبير عن الرأي ، وهم انفسهم قد قالوا ما عندهم وربما اكثر في مختلف ميادين الاعتصامات ، وسابقا في بعض القنوات الخارجية والصحف غير المحلية . ولكن العجيب ان دعاة الحرية هؤلاء هم انفسهم من يصادر الافكار وحرية التعبير بمجرد انها خالفت توجهاتهم ودعواتهم .
أليس من التعارض لمبدأ حرية التعبير – وهم الذين بُحت اصواتهم وهم ينادون به – ان يتهجموا على المعارضين لهم بالسب والشتم فقط لانهم خالفوهم في قول او فكر؟! .
هاهم بدؤا بالسب والشتم وهم لا يزالون في صفوف الجماهير ، ولم يتولوا بعد اية مسؤولية كبيرة في الدولة ، وانني اتسأل : ماذا كانوا فاعلين لو وصلوا الى مراتب السلطة العليا؟! . اظن ان بعض هؤلاء الحقوقيون – كما يسمون هم انفسهم – سيتحولون بقدرة قادر الى استبداديين بمجرد ان احدهم تجرأ وعارضهم . وربما لن يفعلوا اكثر من تكميم افواه معارضيهم لمنعهم من التصريح . " وتلك الايام نداولها بين الناس " (آل عمران : 140) .
يذكرني هذا الصنف من دعاة الحرية بالمعتزلة في العصر العباسي . فقد كان المعتزلة في بداية نشأتهم وضعفهم مطاردين ( بالطبع حال اصحابنا الحقوقيون في مجتمعنا احسن بكثير من حال المعتزلة آنذاك ) وكانوا حينها ينادون بنبذ التعصب ، ويدعون الناس الى اعمال الفكر الحر ، والدعوة الى حرية المبادئ والاعتقاد .
ولكن انقلبت الآية حينما وصلوا الى مدارج السلطة في عهد الخليفة العباسي المأمون ، حيث اضطهدوا العلماء في حينه ، فسُجن البعض ، وجُلد آخرين ، كما قتلوا البعض الآخر ، فكان ما يعرف في التاريخ الاسلامي بالمحنة .
ان تصرفهم ذاك كان مناقضا لما دعى اليه منظريهم سابقا ، والزموا انفسهم به ، وطُوردوا وسُجنوا في سبيله .
ان التاريخ لا يعيد نفسه ، لكن السنن الكونية والظواهر الكبرى تبقى ثابتة لا تغيرها الايام والسنون ، وهي التي تطل برأسها موحيةً خطأً بتكرر حوادث التاريخ .
ان من الطبائع المنغرسة في اكثر فئات مجتمعنا المحلي هو الميل الى التسلط والقيادة ، والاستياء من معارضة الآخر للرأي ، حيث يخلط المرء بين الذات والموضوع ، فيظن ان أي انتقاد لرأيه هو انتقاد لشخصه وطعن في كرامته ، فيثور ثائرته " يحسبون كل صيحة عليهم " (المنافقون : 4) .
ربما كنت هذه المشاعر والميول هي من اثر بقايا البيئة الجغرافية على ابنائها ، فأغلب افراد المجتمع بين ان يكون بدويا نسبة او تأثراً ، او حديث العهد بالبداوة ، ولا يخفى ان آثار الاعراف والعادات تظل باقية في دخائل النفس لسنوات وربما لاجيال حتى تبدأ بالخفوت , واخواننا الحقوقيون هم من فئة الائمة الغير معصومين ، والذين تنطبق عليهم سنن الله في خلقه ، ويبدو ان كلمات مثل (غوغائيين) و (اغبياء) هي من آثار عصر البداوة الفكرية فضلا عن البداوة الجغرافية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق