السبت، 28 يوليو 2012

رسالة إلى وزارة الأوقاف


أوردها سعد , وسعد مشتمل                    ما هكذا يا سعد تورد الإبل

**************************************************************

   من عجيب هذا الزمن أن يحال الأمر إلى غير أهله , ولا يكون في ذلك تعجب ولا حفيظة , ولكأنه بات أمرا مألوفا , فقد صرنا في زمان لا يُتعجب فيه من العجب , وكأنما يراد بنا أن نألفه حتى نعتاده , فتصبح شميلة من شمائلنا لا ننفك عنها قيد أُنملة ولا نحيد .

وغاية العجب من ذلك أن يكون رأس القيم والأخلاق و ذَنَبِه سواء , فلا يمكن التمييز بينهما إلا اسما , لا فعلا وجوهرا .

   لن نطيل المقدمة ونسهب , فحرقان الجوى منعت العبارات أن تنثال ، وشارفت على النضوب تماما كما قاربت – أو تكاد – القيم في بلادنا أن تلفظ أنفاسها , هذا إن لم تجد طبيبا حذقا أمينا ينتشلها من مزلقها التي أُوقعت فيها , ويحمي بكارتها من أن ينتفضها غويّ أضاع أمانته , وهلك فيمن هلك .

   حديثي لا يبرح أروقة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في السلطنة , مع يقيني بعدم خلّوها من المجيدين والغيورين , بل أن كفتهم راجحة ، وهذا هو الأصل في وزارة أُقيم بنيانها للدفاع عن حياض الدين بما يشتمله من عبادات ومعاملات وتعاملات , ولسنا في موضع يسمح لنا بإقامة الموازنات , فلسنا في موضع الهجوم والإنتقام ، بل في جهة النقد والعتب , وكلنا في سلة واحدة نسلم جميعا أو نهلك , كيف لا والأمر يتعلق بالدين والأخلاق ؟!

   أقامت وزارة الأوقاف هذا العام فيما أحيته من فعاليات حدثين هامين : أما أُولاهما فكان معنيا بتجمع أُقيم لأئمة الجوامع والمساجد في عمان ( إلى الآن لا يزال الامر محصورا في أئمة المساجد ونسأل الله ان لا نحيا إلى زمان يتسع شمل هذا التجمع ليضم أئمة ومشرفي دُور العبادة في عمان , مثلما حدث واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير حينما حلت عبارة الشؤون الدينية محل الشؤون الإسلامية ) , اما الحدث الآخر فهي ندوة الفقه الإسلامي الذي يُزعم أنها تستوعب كوكبة من علماء الأمة الإسلامية من جميع أصقاع المعمورة .

لا أدري فإني أكاد أزعم أن هناك لوثة أصابت عقول بعض المشرفين والمسؤولين في هذه الوزارة الموقرة , وهي شبيهة باللوثة التي أصابت المسؤولين في جامعة السلطان قابوس , عندما عزموا على استضافة الفنانة نانسي عجرم وراقصتين للترويح عن أنفسهم وعن المواطنين من ضغوطات العمل .

إن أحدى الأزمات الكبرى التي ابتليت بها عمان يكمن في عدم وضع الأمور في مواضعها , فأصبح العبث مشهدا طبيعيا مألوفا , ومن المظاهر الفجّة لهذا العبث المستشري – للأسف – هذين الحدثين السابقين والتي اعتادت وزارة الأوقاف على إقامتها سنويا .

والعبث المقصود هو في إنتقاء الوزارة لموقع الحدث الذي يستضيف هذين الحدثين , والذي من المفترض أن يضم لفيفا من أحسن الناس أخلاقا . فالعالم الرباني هو الملجأ الذي نلجأ إليه ليقدم لنا النصح والإرشاد والفتوى عندما نقع في حيص بيص ونركن إلى الحيرة , ونتوه في دامس ظلامه , نتلمس فيه مرشدا يرشدنا إلى سواء السبيل . والإمام في الجامع كذلك نرى فيه القدوة والمرشد الذي لا يألوا جهدا في خدمة أمته , بل هو الرجل الذي طبع في عقولنا أنه المصلح الذي لا يكل ولا يمل من نصحنا , والذي ينهانا نهيا عن ارتياد أوكار الرذيلة أو حتى الإقتراب من دوائر الفتن . والناس في جملتهم عُنُقٌ إليهم .

ولهذا لم يخطر ببالنا أبدا أن تنقلب الآية رأسا على عقب , وتختل موازين الأمور هكذا , فنقعد نحن في موضع المعلم الناصح ويتخذ من حسبناهم قدوتنا موضع التلميذ المقصر .

وسؤالي لوزارة الأوقاف : ماهي المعايير التي تتبناها الوزارة في اختيار أماكن إقامة مؤتمراتها وملتقياتها السنوية ؟

وهل فندق بر الجصة وحياة مسقط هما المكانين المناسبين لاستضافة أئمة الجوامع والمساجد في الأولى , واستضافة علماء الأمة الإسلامية في الثانية؟

وللذي لا يعرف عن هذين الفندقين شيئا فإني أسوق طرفا من حديثي في محاولة لرسم صورة مقاربة للواقع في ذهن القارئ المتوقد .

أما في فندق بر الجصة – وإن كنت لم أحضر هذا الملتقى إلا أني أسوق قول أحد الأئمة الذين حضروا الملتقى . فقد استضافهم الفندق لعدة أيام , وإليك في عجالة سرد مشاهد هذا المشارك المنكوب .

فقد استقبلهم الفندق الفخم القابع في قنتب , والمطل على بحر ممتدٍّ برّاق متلئلئ لا حدود تحده , وشاطئ رملي يحث الخطى نحوه ليرشف النزيل من رحيق ضياء الشمس , ويستجم على رمال شاطئه الساحر حين الغروب , تزين سمائه لوحة فنية باهرة كأنها اللجين , بيد أنها ليست حكرا على الأثرياء , بل هي هبة ربانية  لكل البشر , لا فرق بينهم , فالكل في هذا المقام سواء .

   ولا يعكر صفو هذا الجو الساحر شيء سوى طامة ابتليت بها بلداننا الإسلامية تحت سمع وبصر رجالات هذه الأمة ممن ولاها الله أمرها . واعني بهذه الطامة المناظر الخليعة التي تفقأ عيون الناظرين , وتسلب الألوان النضرة من أبصارهم , فتحيلها منظرا قاتما لا لون فيه ولا ذوق . إذ أن النفوس الشريفة تمجّ هذه الصور مجّا , وتنقبض الفطر السليمة العزيزة منها انقباضا لا يملك صاحبها إلا الإنكار على أقل تقدير .

   إن هذه المشاهد الفاضحة من نساء عاريات يرتدين ما يسمى ب " المايوهات " – قطع القماش تلك – التي لا توضع على مواضع العفة للستر , فهذه مفاهيم لا تضمها قواميس هؤلاء القوم ، وإنما توضع للزينة , وحتى لا يقال أنهن عاريات تماما , فهي لا تعدو أن تكون " حشمة العاهرات " و " حجاب الساقطات " .

هذه صور أصبحت مألوفة – أو هكذا يراد لها – وباتت مطلبا ضروريا في فنادقنا . وحيّ على السياحة !!

ويخبرنا صاحبنا المكلوم أن ردهات الفندق الموصلة للغرف الخاصة بهم لا تتوقف عنها عزف المقطوعات الموسيقية الهادئة , والتي لا تملك النفوس المرهفة إلا أن تتمايل معها يمنة و يسرة , تمايل الصوفي الطرب حينما تتملكه الفيوضات , فيسلم عقله منقادا أسيرا لتلك العواطف الجيّاشة لتتقاذفه كيفما شاءت .

أما في قاعة الإجتماعات فليس من العسير أن تقرأ تلك اللوحة المعلقة عاليا , والتي تشير إلى جهة الخمّارة لمن شاء الإحتساء من أئمة الجوامع أو من الزمرة الممثلة لوزارة الاوقاف !! ولم العجب؟! أولم يأتوا بكامل إرادتهم إلى الفندق؟ لم يجبرهم أحد على ذلك , فما المانع أن يكونوا كبقية النزلاء؟! " وإذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ".

   عندما تنتهي فعاليات الجدول اليومي المعدّ , يصير المشارك حرا للتجوال في أروقة الفندق – البعيدة والنائية عن قلب المدينة – والإستمتاع بمرافقها الفخمة ، ولكنها تمسي سجنا لذوي النفوس الرشيدة المؤمنة بوعيد الله ووعده . فلا يمكنهم الإنفكاك عن غرفهم , التي تتحول إلى محبس إختياريّ لهم . فهم إن أطلوا على الأروقة فالموسيقى تخرق أسماعهم , وإن هم هربوا إلى الشاطئ المجاور للترويح عن النفس فالمناظر الفجّة تُعمي بصائرهم إن هم بحلقوا إليها واعتادوها .

   وعندما طفح الكيل بهم ، توجه أحد الأئمة ممن استجمع قواه ، و زوّر كلاما في صدره ليبثه على مسامع المسؤولين الكبار في الوزارة , لعله يجد في أحدهم أُذنا واعية يبث إليه شكواه وحزنه مما هو واقع , وحينما وجه حديثه إلى أحد أكبر المسؤولين في الوزارة , مستفهما ومبديا دهشته من سَجْنهم في هذا المكان المخل بدينهم وعملهم وأخلاقهم وحتى مروءتهم , رجع خائبا صعقا من هول ما سمع من جواب فيه من القبح والنتن ما يغني عن الإجابة , فقد تقيأ المسؤول بأن صرح أن الوزارة أرادت إختبار قلوب هؤلاء الأئمة , وذلك بتعريضهم للفتن , حتى تتبين بنفسها المؤمن من غيره !! والسبب الآخر – والكلام للمسؤول – أن الوزارة أرادت ان تُري الكافرين – من نزلاء الفندق – قوة المسلمين !! ولا تعليق على هذا الكلام الصادر عن ثقيل استخف بدمه فكاد أن يقتلنا باستخفافه .

   أما فندق حياة مسقط التي استضافت ندوة الفقه الإسلامي فلم تكن أحسن حالا من سابقتها , ولا أُحيل هنا حديثي إلى سواي كما كان الشأن مع ملتقى الائمة , لكنني أقص ما رأته عيناي ووعاه قلبي , إذ أول ما يستقبلك قبل دخولك البوابة الرئيس للفندق الضخم خمّارة , عظيمة المبنى , فخمة الشكل , وقد وقعت عيني عند انتهاء جلسات الندوة في اليوم الأول على رجل يتهادى في مشيته - وقد اختل توازنه من أثر الخمرة - وهو يلج الخمّارة , أذ لم تكفه ما تناوله , فعزم على الإستزادة , فحث سيره نحوها ولسان حاله يقول : هل من مزيد؟

ولا ادري كم عالما شاهد بأُم عينه ما شاهدته حينها فاستحييت أن يكتشف هذا المنظر المخجل هؤلاء الضيوف الأجلاء , الذين ما أتوا هنا إلا لتناول قضايا متعلقة بالدين والأخلاق , فتأمل , أي قبيح إقترفته هذه الوزارة بهذا العمل المشين؟ وتسائلت حينها مرارا : ألا يوجد في هذه الوزارة رجل رشيد؟!

   ولم ينتهي العبث إلى هذا الحد , فاستراحة الغداء والصلاة لم تخلو من مغامرات مثيرة . فصالة تناول الطعام في الفندق كان يضم من كل أجناس الأرض من ذكر وأنثى وأحمر وأصفر وأسود , فلا فرق اليوم بين عربي وأعجمي , فالمساواة تامة تامة , حتى التقوى لا يميزهم عن بعضهم . فلا تتعجب إذا رأيت هذا العالم الجليل – الذي لم تكن تراه إلا في التلفاز أو قد تكون قرأت اسمه مثبتا على طرة كتاب صنفه – وهو يجلس على طاولة وجاره الجنب على الطاولة الأخرى إمرأة كاسية عارية لا يستر القماش أكثر مما يفضح . أما من أراد أن يتناول غدائه في الهواء الطلق – وقد صنع بعضهم ذلك – فجزاءه أن يتناول طعامه الشهيّ على مشاهد نساء لسن كاسيات عاريات , بل عاريات فقط يضعن المايوهات على مواطن العفة!! واتسائل : هل شاهد علمائنا الأجلاء هذه المشاهد المغرية من قبل أم أن عمان هي أول دولة نجحت في المزج بين الدين والدنيا !! حيث أثبتت بصنيعها هذا عالمية الإسلام ! وأن الدين الإسلامي لا يحول بين الملتزم وبين حياته , حتى لو كان أمامه من المناظر الخليعة ما يشيب لها الولدان !!

   ولا أنسى ذلك المشهد عندما صدم العالم النحرير بكتفه – من شدة الزحام – إمرأة كانت تنثر ذلك السيل الأسود الفتان على كتفها , فما كان منهما إلا أن إعتذر كل واحد منهما لصاحبه والإبتسامة الرقيقة لا تفارق محياه , فابتسامتك في وجه أخيك صدقة .

   هذا غيض من فيض ما يجيش في خاطري , ولكن ما انقادت لي من الأفكار والعبارات إلا أقلها و أسقمها , أما ما عزمت على تجليته فقد أبت إلا أن تموت في صدري الذي بات مقبرة تضم كل غالٍ ونفيس – أو هكذا أحسبه – فما كان من شأني إلا أن حثوت عليها التراب مرغما , وإنّا لله و إنّا إليه راجعون .

   أما المشهد الأخير من هذا المسلسل المخزي :

فقد صرت أتسحب نحو مركبتي خجلا وأنا أجرّ قدماي جرّا , كأني أتسحب الأرض من ورائي , فقد كان الهم يملئ أنفاسي , وزفراتي تشق السكون المطبق , وصرت أمشي مطرقا وأنا أردد قول الشاعر :

مررت على المروءة وهي تبكي                    فقلت : علام تنتحب الفتاة؟!

فقالت : كيف لا أبكي وأهلي                        جميعا دون خلق الله ماتوا؟!
تابع القراءة ....

الاثنين، 30 أبريل 2012

وقوع الطلاق بين جامعة السلطان قابوس والأخلاق


يقول الشاعر ابراهيم اليازجي :



ألِفْتُمُ الهون حتى صار عندكم               طبعا وبعض طباعِ المرء مكتسب



وفارقتكم لطـول الذل نخوتكم                فلـيس يؤلمكــم خسف ولا عـطب



[ هذه الابيات مهداة الى المسؤولين بجامعة السلطان قابوس ممن وافق على قرار استضافة نانسي عجرم ]



                                  
                        ***************************************


   زفت الينا صحفنا المحلية بتاريخ (21/3/2012م) خبر إقامة حفل كبير ، يقام على أرضنا الطاهرة ، أبرز حضوره يتمثل في عروس الإغراء الفنانة اللبنانية نانسي عجرم ، تزفها راقصتان عالميتان ، والخبر الآخر السعيد أيضا هو حضور الممثلان التركيان ( نور ومهند ) ، الشهيران فقط في وطننا العربي ، وليس في أي مكان آخر حتى تركيا نفسها – حيث يعدان من ممثلي الصف الثاني في بلادهما . إلى هنا لسنا بصدد التعجب من جلب هذه الثلة من النجوم !! فقد عودتنا حكومتنا ( الرشيدة ) – راعية الفن – من إتحافنا نحن الشعب الطيب بمثل هذه المفاجأت بين آونة وأخرى .

  يتبادر إلى الذهن مباشرة  أثناء الإطلاع على الإعلان أن الجهة المنظمة قد تكون وزارة السياحة ، او وزارة الإعلام . حتى مجرد إحتمال أن وزارة التراث والثقافة هي الجهة المنظمة للحفل لم يقع في خاطري ، تماما كما لم يتوقعه كثيرون سواي ، ممن لا يزالون يحسنون الظن بالعالم المتغير من حولنا .

   تصور الكثرة الكاثرة من الجمهور أن المكان اللائق والأنسب لمثل هذه الألوان من الإحتفالات ستكون إحدى الفنادق التي تزخر بها مسقط العامرة ، كفندق قصر البستان – مثلا - لكن أبى ذوو السلطة في بلادنا إلا أن يقدموا مفاجأة إلى الشعب كما جرت العادة . فلن نتطرق إلى المبالغ الطائلة التي صرفت على استجلاب نانسي عجرم والراقصتين ( الفاضلتين ) – طبعا المال ليس من جيوب المسؤولين – لن نتطرق إلى ذلك ؛ حتى لا يوجه طبقة المثقفين نحونا تهمة التخلف والرجعية ، فقد صرنا نخاف أن نوسم بمثل هذه التهمة اللصيقة .


ولكن إذا حق لنا الكلام ، فهل من الممكن أن نتصور أن المكان المزمع على إقامة الحفل فيه آنذاك هي القاعة الكبرى بجامعة السلطان قابوس؟! حيث تغير هذا القرار لاحقا بالقوة ، رغما عن أنوف المسؤولين الكرام الذين سبق وأن عقدوا أمرهم على إقامة الحفل في هذه الجامعة الفتية العذراء ؛ وذلك لخشيتهم من أيّة إحتجاجات وإضطرابات قد تطولهم عاجلا أم آجلا .


هل من المعقول ومن المتصور أن تتحول جامعة العلم والأخلاق إلى جامعة للعري والغناء وهز الوسط؟!!


هل يحق للجامعة التي استضافة فاروق الباز وناصر الدين الأسد و العلامة بكر أبو زيد أن تستقبل نانسي عجرم ، وراقصاتٍ أُخَر ، ومن سار على هذا الدرب المظلم السحيق؟!! أين الثرى من الثريا؟!!


   لازلت أذكر جيدا المؤتمر الذي عقد بجامعة السلطان قابوس في عام (2001م) تحت عنوان " الثقافة والقيم " ، ولازلت أذكر حديث أحد المسؤولين بالجامعة حينها حيث قال : أن الجامعة تعمل على التوفيق بين العلم والقيم والثقافة .


للأسف قد تغير هذا التوجه في غضون عقد من الزمن .


   عندما افتتحت الجامعة في عام (1986م) كانت تتألف من خمس كليات علمية ، ولم تكن كلية الآداب والعلوم الإجتماعية حينذاك ضمن ذلك العقد الناشىء ، وفي إحدى المناسبات التي شرفها صاحب الجلالة السلطان قابوس نهض أحد رموز الإعلام والثقافة في عمان ، موجها حديثه نحو صاحب الجلالة متسائلا ضمن سياقٍ لبق : كيف يتسق أن نقيم جسدا بلا روح؟! فكلية الآداب هي الروح التي تسمو بهذا الجسد الممثل بالكليات العلمية . فأمر صاحب الجلالة – حفظه الله – بإقامة كلية الآداب ، رغم إستياء البعض وإعتراضهم .


   إن الأخلاق والقيم هي أسمى مافي هذه الروح ، وبحق فقد مثلت كلية الآداب هذه الروح ، فما فتئت في تنظيم المؤتمرات والندوات والمحاضرات التي تُعنى بالأخلاق والقيم والثقافة ، وما من شأنه أن يسمو في تعزيز الروح والنهوض بها في مواجهة المادية والعولمة والإنحلال .



   عندما التحقت بالجامعة طالبا لأول مرة شد إنتباهي اللافتات المثبتة على الجدران ، حيث تشير إلى ممرات الطلبة الذكور ؛ لتفصلها عن ممرات الطالبات . كانت هذه لفتة موفقة من إدارة الجامعة – آنذاك – حيث أنها تشير في دلالتها إلى إهتمام الجامعة البالغ بالأخلاق والإلتزام . صحيح أنه لم يكن هناك إلزام للتقيد والفصل بين الجنسين في العبور بتلك الممرات ، لكن مجرد وجودها يكفي للدلالة إلى مدى الحرص على القيم ، وعدم التفريط بها .


وأذكر أيضا المسرحية الطلابية التي أقيمت في قاعة المؤتمرات بالجامعة حين أخرج أحد الممثلين سروالا نسائيا ، نعده من الملابس الداخلية في عرفنا ، فقامت الدنيا ولم تقعد حينها ، لتثبت إدارة الجامعة مجددا أنها لا تتهاون في مسألة القيم ولا تساوم عليه .


   قد قامت الجامعة على إيمان لا يتزعزع أن هناك تلازما لا ينفك ، وصلة وطيدة بين العلم والقيم ، بل إن القيم والأخلاق هي الفضيلة الأولى في ثقافتنا ، وليست الحرية المطلقة ، كما هو حاصل في الغرب المهيمن . ومن هذا المبدأ فإن لفظ التربية تسبق دوما لفظ التعليم ضمن السياقات الإعلامية والتربوية المتداولة .


   مرت السنوات عجلى ... وامتدت معها أذرع العولمة – الكامن في رحمها التغريب والأمركة – إلى كل شؤون حياتنا ، فلا قوة بشرية تستطيع ان توقفها ، فاخترقت حتى غرف نومنا ، وشاركتنا - بهيمنة - في أخص خصائصنا ، متجسدة في صور متعددة أهمها التلفاز والبث الرقمي والإذاعة والسينما والصحف والإنترنت . لم تكتفِ العولمة أن تحتل العالم المادي ، بل امتدت أذرعها الآثمة لتنتهك حرمة الروح ، وتقبع في عقولنا ، لنعيش في صراعٍ مريرٍ، سواء أأدركنا ذلك أم غفلنا عنه . هذا الصراع طرفاه الجسد والمادة الجامحة في جهة ، والروح والقيم التي نشأنا عليها في جهة أخرى . إنه صراع محتدم بين قوتين ، دوما الخاسر فيه الروح ، إذا لم يتداركه الله بعنايته ، ولم يتكاتف الجميع – بما فيها الجهات الرسمية في المقام الأول – في هذا النزال الجائر المستمر .


في هذا الصراع الشرس ، تبرز فيه مخالب المادية والمصالح الخاصة والنفعية في وجه الإنسانية والقيم المطلقة كالصدق والعدالة والمساواة والإيثار .


   حينما أعلنت العولمة حربها علينا بلا هوادة ، لم تجد من يتصدى لها ، فالكل كان في سبات عميق لا يحرك ساكنا ، وظل الأمر على حاله ، حتى تمكنت براثن العولمة بما تحمله من إفرازات مسمومة من عقولنا ، فتحول الناس شيئا فشيئا إلى ماديين ، المال هو أسمى ما يطمحون إليه ويسعون نحوه فُرادى و جماعات .


والجامعة مثل سواها من المؤسسات لم تنجُ من هذا الإجتياح المادي ، فاستولى من دون أية رحمة على أركان هذه المؤسسة الشامخة ، والتي ظلت على مدى عقدين من الزمن منبرا للعلم والتربية والقيم , لا يزاحم منبرها ذاك مزاحم ولا طامع .


   خسرت الجامعة – كما خسر سواها – الجولة الأولى من المعركة ، فسلمت عقالها إلى النفعيين الذين ينظرون فلا يبصرون غير المادة ، وعيونهم دائما وأبدا ترنو نحو المكاسب المادية ، وزيادة الرصيد ، غير عابئين بالوسيلة ، وبقطع النظر عن أي خسائر في الجانب القيمي والمجتمعي . ونسوا أو تناسوا أن الأمن المجتمعي لا يستقيم إلا بوجود مادة تحيا ضمن ضوابط الروح والقيم ، فلا إفراط ولا تفريط .


   ويمثل الإعلان عن إستضافة نانسي عجرم ، وراقصات من نفس صنف الآنسة نانسي قمة الإنهزام القيمي  والخواء الروحي التي تعيشها الجامعة ، تحت ظل مسؤولين منتسبين إلى هذا التيار المنصهر في بوتقة المادية والنفعية المقيتة ، حيث أن هؤلاء المسؤولين قد أسال سعر التذاكر المرتفعة لعابهم ، ولم يعودوا يهمهم أي شيء آخر سواه .


ولا أدري هل فكر هؤلاء النفر من المسؤولين بردة فعل المجتمع؟!


فهم في موقفهم هذا يتراوحون بين حالتين لا ثالث لهن :


الحالة الأولى : أنهم لم يفكروا ولم يخطر ببالهم ردة فعل المجتمع وغضبه ، ولم يدركوا وجود وميض الجمر القابع تحت الرماد ، الذي قد يشتعل في أية لحظة على هيئة احتجاجات لا يعلم نتائجها إلا الله ، وهذا إن كان ، فهو يعكس قلة بضاعة هؤلاء المسؤولين ، ويظهر جليا أن إدارتهم وخططهم مدمرة على المدى المتوسط أو حتى القريب ، وبالتالي وجودهم على رأس الإدارة يسيء ليس فقط إلى سمعة الجامعة ، بل يتعدى الأمر ليقدح بالسياسة العامة للحكومة ، والتي لم تصدق بعد إنتهاء الإحتجاجات الشعبية العارمة التي اجتاحت البلاد من أقصاها إلى أقصاها .


الحالة الثانية : أنهم فكروا بهذه المسألة ، ولكن لم يهمهم لا احتجاجات الجمهور ، ولا رأي العامة ، ومن ضمنهم الطلبة و الأساتذة ، وحتى الموظفين على حدٍ سواء . وهذه تمثل استهانة غير مقبولة بأراء الأغلبية من المواطنين ، فضلا عن عدم اهتمامهم أصلا بالقيم المتوارثة ، وتعاليم الدين الحنيف ، وإذا صح هذا الإفتراض ، فإن  هؤلاء المسؤولين المنتمين إلى هذا التيار ، يشكلون خطرا محدقا بالأمن المحلي ، الغير مستقر أصلا في الوقت الراهن ؛ نظرا لتأثره بسيل الإحتجاجات التي تعصف بالوطن العربي الكبير .


وسؤال آخر أود توجيهه إلى المسؤولين عن مهرجان السينما في عمان : ماهو موقع نانسي عجرم من هذا المهرجان السينمائي؟


أو بعبارة أخرى : ماهو السبب الوجيه لإستضافة نانسي عجرم في هذا المهرجان؟


هل حرصت إدارة المهرجان على استضافة نانسي عجرم لخبرتها الطويلة المديدة؟ أم لعلمها الغزير الذي سيغمر خيره وفضله جميع الفنانيين والمهتمين بهذا الجانب؟!!


هل هناك من سبب مقنع لإستضافة نانسي وبمعيتها الراقصتين والممثلين التركيين ( نور ومهند ) غير الجانب المادي والدعائي؟


   بإختصار بيِّن : إن استضافة نانسي عجرم هي وسيلة دعائية رخيصة لتحقيق أكبر كسب مادي ، فعدد غفير من الجمهور الذي أزمع على شراء التذاكر المرتفعة الثمن لم  يأتِ من أجل الأفلام المعروضة في المهرجان ، ولا من أجل عيون الفن الراقي الذي يدعونه ، بل من أجل التلذذ بالنظر إلى مفاتن المدعوات الفاتنات وعلى رأسهن المستورة نانسي عجرم .


   على كل حال ، يتعين على الحكومة إعادة النظر في المواقع التي يشغلها هؤلاء المسؤولين المنتمين إلى هذا التيار التغريبي النفعي ؛ لأنهم باتوا شوكة مؤلمة في خاصرة الوطن الجريح ، يقض بدوره مضاجع الأحرار من أبنائه ، فلم يعد يحتمل الأمر انتظارا أو ترددا ، فإن الشمس قد آذنت على المغيب ، والسيف قد يسبق العذل , ولات حين مناص .


                     
                              ****************************

فائدة :
   يقول ابن خلدون - رحمه الله - : " إن المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب ، في شعاره ، وزيه ، ونحلته ، وسائر أحواله وعوائده " .   [ المقدمة ]                                                              
تابع القراءة ....

الثلاثاء، 10 يناير 2012

في رحاب مقالة منشورة في جريدة الشبيبة


   نشرت صحيفة الشبيبة في عددها الصادر (5821) الموافق لــ(30/11/2011م) مقالا بعنوان "لماذا تدافع امريكا عن الدول الضعيفة؟" ، للمؤرخ العسكري الامريكي ، واستاذ الدراسات الكلاسيكية بجامعة كاليفورنيا "فكتور ديفيز هانسون".

   وقبل التطرق الى ماورد في المقال ، اجد من المفيد ان نُعرّف بالكاتب في سطورٍ لعلها تسهم في فهم توجه الكاتب ومذهبه ، والتي تسهم بدورها في سبر اغوار ما يسطره لنا من مقالات وبحوث وكتب .

   اما عن اسمه فهو "فكتور ديفيز هانسون" ، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ستانفورد في التاريخ الاغريقي والروماني ، وهو من كبار الخبراء في مركز "هوفر" التابع للجامعة نفسها ، وحاليا يشغل منصب استاذ الدراسات الكلاسيكية بجامعة كاليفورنيا . اما عن سيرته المهنية فهي تنضح بالعديد من الجوائز المرموقة في المجالين الاكاديمي والصحافي ، كما لاننسى ان نؤكد انه من اشد المدافعين عن تحرير العراق ، ومن المتحمسين كذلك لسياسة الرئيس الامريكي السابق "جورج بوش الابن" ، ويظهر لنا ذلك جليا في مقالته المعنونة بـ (لماذا نفتقد بوش؟) ، وقد نُشرت في صحيفة نيويورك بوست (7/9/2010م) ، حيث لم يبخل الاستاذ الجامعي المرموق في حينه من توجيه العديد من الانتقادات لسياسات الرئيس الامريكي باراك اوباما ، وقد حرص على عقد المقارنات بين الرئيسين بشكل يرجح كفة الرئيس السابق على حساب الرئيس الحالي .

   وحتى نفهم هانسون بشكل اوضح سنتطرق سريعا الى ما اثبته في كتابه الموسوم بـ " المذبحة والثقافة : معارك بارزة في صعود القوة الغربية " ، حيث يؤكد هانسون في طيات هذا الكتاب على "مايتمتع الغرب به من موهبة في القتل" ، رابطا بين موهبة الغرب في القتل وبين تحقيق الهيمنة الغربية على سائر شعوب العالم ، وذلك بإعتبار الهيمنة نتيجة للقتل ، ويشدد على تفوق الغرب في ممارسة قتل خصومه من الشعوب الاخرى ببراعة فريدة ، دون اعتبار لوازع اخلاقي ، او اعتبارات انسانية او دينية . ويمضي هانسون في سرد رأيه ، حيث يشير الى ان التفوق الثقافي لأمة او جنس معين يتجسد في المعارك والحروب التي تخوضها ، ويؤكد من خلاله ان التفوق الثقافي للغرب لم يتأتّى الا عبر الانتصارات الحاسمة للآلة العسكرية الغربية ، التي تصدر الموت بكل براعة للشعوب الأخرى .

   والعجيب ان موقف هانسون هذا لا يأتي في سياق النقد لهذه السياسة ، ولكن في اطار التباهي والتفاخر بهذه السياسة المؤدية الى الهيمنة .

هذا هو بإختصار الدكتور فيكتور ديفيز هانسون ، ولن ازيد .

   اما مناسبة مقالته المنشورة في جريدة الشبيبة ، فهي تجئ في معرض الرد على الكاتب الامريكي "بول كاين" الذي قام بدوره بنشر مقالة في صحيفة نيويورك تايمز – يصفها هانسون بالمقال الغريب – اثبت فيه – على مايبدو – رأيه في السياسة الخارجية الامريكية القائمة على لعبة المصالح بالدرجة الاولى ، وعارضا من خلالها الايديولوجية الامريكية البراجماتية ، التي لا تلتفت كثيرا الى الاخلاقيات ، ولا المشاعر الانسانية . يقول بول كاين – وفقا لهانسون - : " ان بإمكان الولايات المتحدة ان تضحي بدعمها لتايوان الديموقراطية مقابل تريليون دولار امريكي " ، واسترسل بول كاين قائلا : " ان الصينيين سوف يشعرون بالامتنان لنا للسماح لهم بوضع ايديهم على جزيرة تايوان ، لدرجة انهم سوف يتسامحون معنا عن معظم الديون الامريكية المستحقة للصين " .

   اثار هذا الرأي حفيظة هانسون ، مما دعاه الى تحبير هذه المقالة ، التي تنجلي فيها اثر البيئة الامريكية ، والاعلام الامريكي الموجه . يرد هانسون متسائلا في معرض رده على مقال بول  كاين : " اذن لماذا تخاطر الولايات المتحدة الامريكية من اجل ضمان امن بلدان مثل اسرائيل و تايوان؟ ولماذا لا تراهن امريكا على اعداء تلك الدول الاغنياء؟ " .

   لا  يخفينا  هانسون سرا عن ماهية هؤلاء " الاعداء الاغنياء " – على حد تعبيره – ولا يطيل السرد حين يقول عن " الاعداء الاغنياء " : " ان الشرق الاوسط العربي لديه النفط ، ومئات الملايين من الناس ، والعديد من الارهابيين المسلمين الراديكاليين الخطرين ..." .

   واضح ان هانسون مؤمن بالعقيدة الاعلامية للولايات المتحدة ، التي تعلن دوما وابدا دفاعها عن المظلومين في شتى اصقاع المعمورة ، ويريد ان نصدق نحن بدورنا هذا الادعاء . فاسرائيل باتت دولة ضعيفة تستدعي الشفقة ، وتحول العرب الى جلادين بقدرة قادر ، اصبحنا – على مايريد هانسون – اشرارا اغنياء يملكون النفط ، ومئات الملايين من الناس الذين لا تراهن عليهم الولايات المتحدة ، لانهم على مايبدو ليسوا اهلا للثقة .

   ويكمل هانسون مسلسل تلميع السياسة الامريكية فيقول : " يجب على الرئيس اوباما ان يتذكر ان امريكا لا تفكر بشكل حصري حسب المنفعة الوطنية ، وفي واقع الامر فإنه يبدو ان الولايات المتحدة تميل الى حماية الدول الصغيرة والضعيفة ، فمثلا استغرق الامر حربين و 12 سنة من مناطق حظر الطيران في العراق ، من اجل انقاذ الاكراد من صدام حسين " .

   يا لهذه الدولة العظيمة التي تضحي بأبنائها ، واموالها ، فقط من اجل انقاذ الاخرين المستضعفين ، وليس لشئ آخر !! .

هكذا يتمنى هانسون ان نفكر ، وهكذا يريدنا ان نقول .

   ولا يجد صاحبنا غضاضة ان يعلن ميله الصريح ، وتعاطفه الواضح لاسرائيل ، حيث يقول بحرقة : ".... فنصف يهود العالم قتلوا في المحرقة النازية...". ويقول في سياق اخر : " لقد كانت اسرائيل معرضة للزوال في حرب سنة 1971م لولا المساعدات العسكرية الامريكية الضخمة " . ويقول ايضا : " اسرائيل وتايوان وكردستان واليونان وارمينيا هي دول ديمقراطية ، تمكنت من المحافظة على بقائها على مر التاريخ ، رغم كل الصعاب " .

كنا نتمنى من هانسون وهو استاذ التاريخ ان يسرد علينا تاريخ دولة اسرائيل الطويل على مر التاريخ الذي يتحدث عنه !.

   ويختم هانسون مقاله بالفقرة الآتية : " ... لكن وحتى لو انطوت حماية تلك البلدان الصغيرة على المخاطرة ، فإن اهتمامنا يعكس القيم التي تنفرد بها الولايات المتحدة الامريكية ، فالامم المتحدة لا تمتلك الارادة ولا القدرة على التحقق من ضمان امن تلك البلدان ، والاتحاد الاوروبي المتآكل يتكلم بشكل كبير عن القيم العالمية ، ولكنه نادرا ما يخاطر بدماء ابنائه او امواله من اجل الدفاع عن تلك القيم . ان امريكا هي الدولة الوحيدة التي لديها النزعة الاخلاقية ، والقوة اللازمة لحماية شعوب العالم الضعيفة تاريخيا والفريدة ثقافيا ، وسوف يكون من المؤسف ان ننسى ذلك بسبب رغبتنا بالربح ، او لاننا ضقنا ذرعا بالاعباء " .

   قد يبدو هذا المقال مثيرا للغضب والسخط ، ومدعاة للتعجب – على الاقل لنا نحن العرب – وبالفعل فقد كان مثل هذا الكلام يؤرقني ، فأظل مستغرقا في التفكير في اوجه هذا الكلام ، اذ كيف يمكن ان يوجد انسانا واحدا يعيش على ظهر البسيطة لم يدرك بعد التوجه الامريكي ، وسياستها الرامية الى السيطرة ، وزيادة النفوذ ، والتنقيب عن مصالحها السياسية والاقتصادية؟ هذه السياسة البعيدة جدا عن أي ايديولوجيا تلامس  اهداب الانسانية ، والتي من الممكن ان تدور الولايات المتحدة في فلكها .

   لم اكن اقتنع في حينه ان هناك من لا يوافق على هذا الكلام جملة وتفصيلا . لم ادرك ساعتها ان الاختلاف الفكري سنة كونية لا مفر منها ، تماما كما نختلف في الوجوه وقسماتها .

   ولكن الحقيقة كانت بعيدة بعض الشئ عن هذا الاعتقاد ، يقول علي الوردي – عالم الاجتماع العراقي : " العقل في حقيقة امره نتاج اجتماعي ، وهو صنيعة الثقافة الاجتماعية التي ينشأ فيها الانسان " . فقد يظن الانسان انه حر في تفكيره ، ولكنه في الحقيقة يفكر الى حد كبير بعقل مجتمعه . فهو يميز بين الصواب والخطأ وفق مايملي عليه مجتمعه الذي نشأ فيه ، فالعاطفة والمصلحة وحدود المعرفة والعادات والتجارب التي طواها النسيان – وظلت محفورة في اللاواعي – بل وحتى العقد النفسية ، كلها تؤثر قليلا او كثيرا في حيادية التفكير التي يدعيها الانسان دوما ، وتشكل له مقاييسا فكرية خاصة ، وخطوطا فكرية عريضة ، لا يخرج الانسان من اطارها في الغالب .

   هذا ما قد نلمسه ونتحسسه من مقالة هانسون سالفة الذكر . وفي غالب الامر لم يتعمد هانسون الكذب علينا في ما قاله آنفا ، ولكنه وقع اسير المجتمع والاعلام الموجه في الولايات المتحدة الامريكية .

   وسأسوق هنا امثلة لمثل هذا التوجه في امريكا ، وهو السائد على ما يبدو ، او قل هو الطاغي على السياسة الامريكية ، وعبر الآلة الاعلامية الموجهه . فلم يطوِ النسيان بعد قول الرئيس الامريكي الاسبق " بيل كلينتون " اثناء حفل تنصيبه : " ان امريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري ، واننا نستشعر ان علينا التزاما مقدسا لتحويل العالم الى صورتنا " .

   ان الغرب الذي يؤمن بعض اساطينه بنظرية " نهاية التاريخ " – أي ان الغرب قد وصل الى قمة الرقي الفكري ، وانه لم يعد في الامكان ابداع اكثر مما كان – ينطلق من ضوء هذا المعتقد من اجل فرض فكره وقيمه وعاداته علينا – ولو قسرا- وذلك تحت مسمى " عولمة العالم " ، وهذا مكمن الخطر .

   فقد حارب الغرب الدين ، واستهجن اعتبار الكتب السماوية مقدسا ، ولكنه وللمفارقة ، احل مقدسا بمقدس ، حيث ان هذه القيم الغربية ، والتي يسميها " قيما عالمية " ، اصبحت – شئنا ام ابينا – مقدسة مبجلة ، فلا يمكن مخالفتها ، او الخروج عليها ، والا قامت الدنيا ولم تقعد .

   واسوق هنا مثالا اخر للكاتبة " د. لاينا فرهات " من مؤسسة " فاميلي سكيوريتي الامريكية " حيث قالت في مقالة لها ، تحت عنوان " الثقافة وتأثيرها على الفقر " والمنشور بتاريخ (18/12/2007م) : " ان الصين واليابان والهند مؤخرا اظهرت بأنها لا تخشى تبنّي القيم الغربية الحديثة في تنمية مجتمعاتها ، انهم الآن يقطفون ثمار النجاح . اما العالم الاسلامي ، ودول افريقيا الوسطى فليسوا كذلك ، انهم في النهاية سيفعلون ذلك ، لكن عبر مسيرة بطيئة ، لا شك في انها ستكون دموية ، ولن تجدي الاموال نفعا في هذا المجال " .

   يتضح جليا من هذه الفقرة ان الدكتورة لا ينا ترى ان القيم الغربية الحديثة هي المخلص الوحيد لازمة التخلف في العالم ، انه المنقذ والمبشر الذي سيملئ الدنيا علما وتقدما ، كلما ملئت جهلا وتخلفا .

   وفي اخر سياقات الاستشهاد ، ارفع عن كاهلي عناء تصوير آلية التفكير الغربي الامريكي على  وجه الخصوص ، نحو الشعوب الاخرى ، برأيٍ للكاتب الفرنسي "ميشال بوغنون" ، وذلك بإستقطاع فقرة من كتابه " امريكا التوليتارية " (منشور عام 1997م) ، اذ يقول : " التفكير الجمعي الامريكي يقوم على قاعدة ايديولوجية راسخة ، محورها ان الولايات المتحدة قامت كمجتمع ودولة اصلا لانها مكلفة برسالة سامية ، وبناءً على هذا الايمان يركن التفكير الجمعي الامريكي الى يقين راسخ بأن اداء هذه الرسالة يفرض استخدام كل الوسائل ، دون تحريم ام تردد . هذه العناصر مكونات رئيسية في جوهر الولايات المتحدة كدولة ، وفي مواقفها واسقاطاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية بالنسبة لباقي العالم " .

   لا اخفيكم انني عندما بدأت الحديث لم اكن اود الاسهاب ، او الاستشهاد بأقوال احد ، ولكن الكلام يجر بعضه بعضا ، ولمثل هذا الموضوع شجونا ، يقسرنا قسرا على الاطناب ، فقد كنت ارغب بالتوجه بالخطاب نحو جريدة الشبيبة الغراء ، حيث في الحقيقة لم افهم ماهي الفائدة المرجوة من نشر مقالة هانسون على صفحتها؟

وقد اسأت الظن في الصحيفة – واستغفر الله على ذلك – حيث خطر في حينه ببالي تساؤلا مفاده : هل تود الصحيفة إغاضة القارئ العربي المفجوع اصلا منذ نعومة اظفاره ، وبداية تلمسه واقعنا المنكوب؟

لماذا تم اختيار هذه المقالة بالذات للنشر من بين كل المقالات المنشورة ، والتي قد نجد في كثير منها فائدة جمة؟

صحيح ان من عادة الصحف ان تسطر في اعلى صفحة المقالات : ان الاراء الواردة لا تمثل بالضرورة رأي الصحيفة ، ولكن الذي اعتقده ان الصحف قد تنشر مقالا لا توافق على بعض ما يعرض فيه ، لكنه يتوافق مع التوجه العام للصحيفة ، فليس من المستساغ مثلا ان تنشر صحيفة ليبرالية التوجه على صفحاتها مقالا دعائيا للشيوعية ، يسطر فيها الكاتب مميزاتها ، ويمجد الماركسية ، ويذم الديموقراطية والرأسمالية . ولن نجد صحيفة غربية ذائعة الصيت تعرض مقالا ينفي او حتى يشكك بالهولوكوست ، واذا فعلت – ولن تفعل – قامت الدنيا عليها ، وربما تعرضت للاغلاق بفعل حكم قضائي وضغط شعبي .

   هل ترى صحيفتنا الغراء انه من المفيد ان نطّلع على الاراء الاخرى المخالفة لوجهة نظرنا ولهذا تعمدت نشر مقال هانسون؟!

   ولكن هل في الواقع اننا نرى ونسمع عبر الاعلام الا تمجيدا لامريكا؟ فإذا قرأنا صحفنا المحلية فضلا عن الصحف الاجنبية وجدنا تمجيدا لامريكا – ومقالة هانسون مثالا على ذلك – واذا انتقلنا الى القنوات الاعلامية العالمية صُمّت آذاننا ونحن نسمع التطبيل للديموقراطية والعدالة والحرية الامريكية .

   هناك مقالات كثيرة جدا من الممكن ان يستفيد القارئ العربي مما فيه ، اكثر مما لو قرأ مقالة هانسون هذه ، فإنها  لم تقدم لنا جديدا سوى انها ربما قد اسهمت في رفع مستوى السكر والضغط في بعض القراء المساكين اعاننا الله واياهم .

   وفي الختام اجد نفسي ميالا الى الاستشهاد بقول المؤرخ البريطاني " ارنولد توينبي " حين يقول : "كنت دائما اخشى القول بأن القراصنة – لا العباقرة – هم الذين يصنعون التاريخ ، الذي هو في حالته الراهنة الابن غير الشرعي للجغرافيا ".

قد يجد البعض هذا الاقتباس بعيدا بعض الشئ عن موضوعنا المطروح ، ولكنني سقتها تحت تأثير امر غامض لم ادرك كنهه ، وما ادراني فربما يكون هذا التأثير من مخلفات العقد النفسية التي ترعرعت في نفسي من فيض عطاء مجتمعي الذي اعيشه !.

الى هنـا انُهي حديثي وانتهي               وما شئتَ في حقي من الخير فاصنعِ

فإنك اهل الجود والبر والتقى             ووضع الايادي البيض في كل موضعِ


تابع القراءة ....