السبت، 28 يوليو 2012

رسالة إلى وزارة الأوقاف


أوردها سعد , وسعد مشتمل                    ما هكذا يا سعد تورد الإبل

**************************************************************

   من عجيب هذا الزمن أن يحال الأمر إلى غير أهله , ولا يكون في ذلك تعجب ولا حفيظة , ولكأنه بات أمرا مألوفا , فقد صرنا في زمان لا يُتعجب فيه من العجب , وكأنما يراد بنا أن نألفه حتى نعتاده , فتصبح شميلة من شمائلنا لا ننفك عنها قيد أُنملة ولا نحيد .

وغاية العجب من ذلك أن يكون رأس القيم والأخلاق و ذَنَبِه سواء , فلا يمكن التمييز بينهما إلا اسما , لا فعلا وجوهرا .

   لن نطيل المقدمة ونسهب , فحرقان الجوى منعت العبارات أن تنثال ، وشارفت على النضوب تماما كما قاربت – أو تكاد – القيم في بلادنا أن تلفظ أنفاسها , هذا إن لم تجد طبيبا حذقا أمينا ينتشلها من مزلقها التي أُوقعت فيها , ويحمي بكارتها من أن ينتفضها غويّ أضاع أمانته , وهلك فيمن هلك .

   حديثي لا يبرح أروقة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في السلطنة , مع يقيني بعدم خلّوها من المجيدين والغيورين , بل أن كفتهم راجحة ، وهذا هو الأصل في وزارة أُقيم بنيانها للدفاع عن حياض الدين بما يشتمله من عبادات ومعاملات وتعاملات , ولسنا في موضع يسمح لنا بإقامة الموازنات , فلسنا في موضع الهجوم والإنتقام ، بل في جهة النقد والعتب , وكلنا في سلة واحدة نسلم جميعا أو نهلك , كيف لا والأمر يتعلق بالدين والأخلاق ؟!

   أقامت وزارة الأوقاف هذا العام فيما أحيته من فعاليات حدثين هامين : أما أُولاهما فكان معنيا بتجمع أُقيم لأئمة الجوامع والمساجد في عمان ( إلى الآن لا يزال الامر محصورا في أئمة المساجد ونسأل الله ان لا نحيا إلى زمان يتسع شمل هذا التجمع ليضم أئمة ومشرفي دُور العبادة في عمان , مثلما حدث واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير حينما حلت عبارة الشؤون الدينية محل الشؤون الإسلامية ) , اما الحدث الآخر فهي ندوة الفقه الإسلامي الذي يُزعم أنها تستوعب كوكبة من علماء الأمة الإسلامية من جميع أصقاع المعمورة .

لا أدري فإني أكاد أزعم أن هناك لوثة أصابت عقول بعض المشرفين والمسؤولين في هذه الوزارة الموقرة , وهي شبيهة باللوثة التي أصابت المسؤولين في جامعة السلطان قابوس , عندما عزموا على استضافة الفنانة نانسي عجرم وراقصتين للترويح عن أنفسهم وعن المواطنين من ضغوطات العمل .

إن أحدى الأزمات الكبرى التي ابتليت بها عمان يكمن في عدم وضع الأمور في مواضعها , فأصبح العبث مشهدا طبيعيا مألوفا , ومن المظاهر الفجّة لهذا العبث المستشري – للأسف – هذين الحدثين السابقين والتي اعتادت وزارة الأوقاف على إقامتها سنويا .

والعبث المقصود هو في إنتقاء الوزارة لموقع الحدث الذي يستضيف هذين الحدثين , والذي من المفترض أن يضم لفيفا من أحسن الناس أخلاقا . فالعالم الرباني هو الملجأ الذي نلجأ إليه ليقدم لنا النصح والإرشاد والفتوى عندما نقع في حيص بيص ونركن إلى الحيرة , ونتوه في دامس ظلامه , نتلمس فيه مرشدا يرشدنا إلى سواء السبيل . والإمام في الجامع كذلك نرى فيه القدوة والمرشد الذي لا يألوا جهدا في خدمة أمته , بل هو الرجل الذي طبع في عقولنا أنه المصلح الذي لا يكل ولا يمل من نصحنا , والذي ينهانا نهيا عن ارتياد أوكار الرذيلة أو حتى الإقتراب من دوائر الفتن . والناس في جملتهم عُنُقٌ إليهم .

ولهذا لم يخطر ببالنا أبدا أن تنقلب الآية رأسا على عقب , وتختل موازين الأمور هكذا , فنقعد نحن في موضع المعلم الناصح ويتخذ من حسبناهم قدوتنا موضع التلميذ المقصر .

وسؤالي لوزارة الأوقاف : ماهي المعايير التي تتبناها الوزارة في اختيار أماكن إقامة مؤتمراتها وملتقياتها السنوية ؟

وهل فندق بر الجصة وحياة مسقط هما المكانين المناسبين لاستضافة أئمة الجوامع والمساجد في الأولى , واستضافة علماء الأمة الإسلامية في الثانية؟

وللذي لا يعرف عن هذين الفندقين شيئا فإني أسوق طرفا من حديثي في محاولة لرسم صورة مقاربة للواقع في ذهن القارئ المتوقد .

أما في فندق بر الجصة – وإن كنت لم أحضر هذا الملتقى إلا أني أسوق قول أحد الأئمة الذين حضروا الملتقى . فقد استضافهم الفندق لعدة أيام , وإليك في عجالة سرد مشاهد هذا المشارك المنكوب .

فقد استقبلهم الفندق الفخم القابع في قنتب , والمطل على بحر ممتدٍّ برّاق متلئلئ لا حدود تحده , وشاطئ رملي يحث الخطى نحوه ليرشف النزيل من رحيق ضياء الشمس , ويستجم على رمال شاطئه الساحر حين الغروب , تزين سمائه لوحة فنية باهرة كأنها اللجين , بيد أنها ليست حكرا على الأثرياء , بل هي هبة ربانية  لكل البشر , لا فرق بينهم , فالكل في هذا المقام سواء .

   ولا يعكر صفو هذا الجو الساحر شيء سوى طامة ابتليت بها بلداننا الإسلامية تحت سمع وبصر رجالات هذه الأمة ممن ولاها الله أمرها . واعني بهذه الطامة المناظر الخليعة التي تفقأ عيون الناظرين , وتسلب الألوان النضرة من أبصارهم , فتحيلها منظرا قاتما لا لون فيه ولا ذوق . إذ أن النفوس الشريفة تمجّ هذه الصور مجّا , وتنقبض الفطر السليمة العزيزة منها انقباضا لا يملك صاحبها إلا الإنكار على أقل تقدير .

   إن هذه المشاهد الفاضحة من نساء عاريات يرتدين ما يسمى ب " المايوهات " – قطع القماش تلك – التي لا توضع على مواضع العفة للستر , فهذه مفاهيم لا تضمها قواميس هؤلاء القوم ، وإنما توضع للزينة , وحتى لا يقال أنهن عاريات تماما , فهي لا تعدو أن تكون " حشمة العاهرات " و " حجاب الساقطات " .

هذه صور أصبحت مألوفة – أو هكذا يراد لها – وباتت مطلبا ضروريا في فنادقنا . وحيّ على السياحة !!

ويخبرنا صاحبنا المكلوم أن ردهات الفندق الموصلة للغرف الخاصة بهم لا تتوقف عنها عزف المقطوعات الموسيقية الهادئة , والتي لا تملك النفوس المرهفة إلا أن تتمايل معها يمنة و يسرة , تمايل الصوفي الطرب حينما تتملكه الفيوضات , فيسلم عقله منقادا أسيرا لتلك العواطف الجيّاشة لتتقاذفه كيفما شاءت .

أما في قاعة الإجتماعات فليس من العسير أن تقرأ تلك اللوحة المعلقة عاليا , والتي تشير إلى جهة الخمّارة لمن شاء الإحتساء من أئمة الجوامع أو من الزمرة الممثلة لوزارة الاوقاف !! ولم العجب؟! أولم يأتوا بكامل إرادتهم إلى الفندق؟ لم يجبرهم أحد على ذلك , فما المانع أن يكونوا كبقية النزلاء؟! " وإذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ".

   عندما تنتهي فعاليات الجدول اليومي المعدّ , يصير المشارك حرا للتجوال في أروقة الفندق – البعيدة والنائية عن قلب المدينة – والإستمتاع بمرافقها الفخمة ، ولكنها تمسي سجنا لذوي النفوس الرشيدة المؤمنة بوعيد الله ووعده . فلا يمكنهم الإنفكاك عن غرفهم , التي تتحول إلى محبس إختياريّ لهم . فهم إن أطلوا على الأروقة فالموسيقى تخرق أسماعهم , وإن هم هربوا إلى الشاطئ المجاور للترويح عن النفس فالمناظر الفجّة تُعمي بصائرهم إن هم بحلقوا إليها واعتادوها .

   وعندما طفح الكيل بهم ، توجه أحد الأئمة ممن استجمع قواه ، و زوّر كلاما في صدره ليبثه على مسامع المسؤولين الكبار في الوزارة , لعله يجد في أحدهم أُذنا واعية يبث إليه شكواه وحزنه مما هو واقع , وحينما وجه حديثه إلى أحد أكبر المسؤولين في الوزارة , مستفهما ومبديا دهشته من سَجْنهم في هذا المكان المخل بدينهم وعملهم وأخلاقهم وحتى مروءتهم , رجع خائبا صعقا من هول ما سمع من جواب فيه من القبح والنتن ما يغني عن الإجابة , فقد تقيأ المسؤول بأن صرح أن الوزارة أرادت إختبار قلوب هؤلاء الأئمة , وذلك بتعريضهم للفتن , حتى تتبين بنفسها المؤمن من غيره !! والسبب الآخر – والكلام للمسؤول – أن الوزارة أرادت ان تُري الكافرين – من نزلاء الفندق – قوة المسلمين !! ولا تعليق على هذا الكلام الصادر عن ثقيل استخف بدمه فكاد أن يقتلنا باستخفافه .

   أما فندق حياة مسقط التي استضافت ندوة الفقه الإسلامي فلم تكن أحسن حالا من سابقتها , ولا أُحيل هنا حديثي إلى سواي كما كان الشأن مع ملتقى الائمة , لكنني أقص ما رأته عيناي ووعاه قلبي , إذ أول ما يستقبلك قبل دخولك البوابة الرئيس للفندق الضخم خمّارة , عظيمة المبنى , فخمة الشكل , وقد وقعت عيني عند انتهاء جلسات الندوة في اليوم الأول على رجل يتهادى في مشيته - وقد اختل توازنه من أثر الخمرة - وهو يلج الخمّارة , أذ لم تكفه ما تناوله , فعزم على الإستزادة , فحث سيره نحوها ولسان حاله يقول : هل من مزيد؟

ولا ادري كم عالما شاهد بأُم عينه ما شاهدته حينها فاستحييت أن يكتشف هذا المنظر المخجل هؤلاء الضيوف الأجلاء , الذين ما أتوا هنا إلا لتناول قضايا متعلقة بالدين والأخلاق , فتأمل , أي قبيح إقترفته هذه الوزارة بهذا العمل المشين؟ وتسائلت حينها مرارا : ألا يوجد في هذه الوزارة رجل رشيد؟!

   ولم ينتهي العبث إلى هذا الحد , فاستراحة الغداء والصلاة لم تخلو من مغامرات مثيرة . فصالة تناول الطعام في الفندق كان يضم من كل أجناس الأرض من ذكر وأنثى وأحمر وأصفر وأسود , فلا فرق اليوم بين عربي وأعجمي , فالمساواة تامة تامة , حتى التقوى لا يميزهم عن بعضهم . فلا تتعجب إذا رأيت هذا العالم الجليل – الذي لم تكن تراه إلا في التلفاز أو قد تكون قرأت اسمه مثبتا على طرة كتاب صنفه – وهو يجلس على طاولة وجاره الجنب على الطاولة الأخرى إمرأة كاسية عارية لا يستر القماش أكثر مما يفضح . أما من أراد أن يتناول غدائه في الهواء الطلق – وقد صنع بعضهم ذلك – فجزاءه أن يتناول طعامه الشهيّ على مشاهد نساء لسن كاسيات عاريات , بل عاريات فقط يضعن المايوهات على مواطن العفة!! واتسائل : هل شاهد علمائنا الأجلاء هذه المشاهد المغرية من قبل أم أن عمان هي أول دولة نجحت في المزج بين الدين والدنيا !! حيث أثبتت بصنيعها هذا عالمية الإسلام ! وأن الدين الإسلامي لا يحول بين الملتزم وبين حياته , حتى لو كان أمامه من المناظر الخليعة ما يشيب لها الولدان !!

   ولا أنسى ذلك المشهد عندما صدم العالم النحرير بكتفه – من شدة الزحام – إمرأة كانت تنثر ذلك السيل الأسود الفتان على كتفها , فما كان منهما إلا أن إعتذر كل واحد منهما لصاحبه والإبتسامة الرقيقة لا تفارق محياه , فابتسامتك في وجه أخيك صدقة .

   هذا غيض من فيض ما يجيش في خاطري , ولكن ما انقادت لي من الأفكار والعبارات إلا أقلها و أسقمها , أما ما عزمت على تجليته فقد أبت إلا أن تموت في صدري الذي بات مقبرة تضم كل غالٍ ونفيس – أو هكذا أحسبه – فما كان من شأني إلا أن حثوت عليها التراب مرغما , وإنّا لله و إنّا إليه راجعون .

   أما المشهد الأخير من هذا المسلسل المخزي :

فقد صرت أتسحب نحو مركبتي خجلا وأنا أجرّ قدماي جرّا , كأني أتسحب الأرض من ورائي , فقد كان الهم يملئ أنفاسي , وزفراتي تشق السكون المطبق , وصرت أمشي مطرقا وأنا أردد قول الشاعر :

مررت على المروءة وهي تبكي                    فقلت : علام تنتحب الفتاة؟!

فقالت : كيف لا أبكي وأهلي                        جميعا دون خلق الله ماتوا؟!
تابع القراءة ....