نشرت صحيفة الشبيبة في عددها الصادر (5821) الموافق لــ(30/11/2011م) مقالا بعنوان "لماذا تدافع امريكا عن الدول الضعيفة؟" ، للمؤرخ العسكري الامريكي ، واستاذ الدراسات الكلاسيكية بجامعة كاليفورنيا "فكتور ديفيز هانسون".
وقبل التطرق الى ماورد في المقال ، اجد من المفيد ان نُعرّف بالكاتب في سطورٍ لعلها تسهم في فهم توجه الكاتب ومذهبه ، والتي تسهم بدورها في سبر اغوار ما يسطره لنا من مقالات وبحوث وكتب .
اما عن اسمه فهو "فكتور ديفيز هانسون" ، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ستانفورد في التاريخ الاغريقي والروماني ، وهو من كبار الخبراء في مركز "هوفر" التابع للجامعة نفسها ، وحاليا يشغل منصب استاذ الدراسات الكلاسيكية بجامعة كاليفورنيا . اما عن سيرته المهنية فهي تنضح بالعديد من الجوائز المرموقة في المجالين الاكاديمي والصحافي ، كما لاننسى ان نؤكد انه من اشد المدافعين عن تحرير العراق ، ومن المتحمسين كذلك لسياسة الرئيس الامريكي السابق "جورج بوش الابن" ، ويظهر لنا ذلك جليا في مقالته المعنونة بـ (لماذا نفتقد بوش؟) ، وقد نُشرت في صحيفة نيويورك بوست (7/9/2010م) ، حيث لم يبخل الاستاذ الجامعي المرموق في حينه من توجيه العديد من الانتقادات لسياسات الرئيس الامريكي باراك اوباما ، وقد حرص على عقد المقارنات بين الرئيسين بشكل يرجح كفة الرئيس السابق على حساب الرئيس الحالي .
وحتى نفهم هانسون بشكل اوضح سنتطرق سريعا الى ما اثبته في كتابه الموسوم بـ " المذبحة والثقافة : معارك بارزة في صعود القوة الغربية " ، حيث يؤكد هانسون في طيات هذا الكتاب على "مايتمتع الغرب به من موهبة في القتل" ، رابطا بين موهبة الغرب في القتل وبين تحقيق الهيمنة الغربية على سائر شعوب العالم ، وذلك بإعتبار الهيمنة نتيجة للقتل ، ويشدد على تفوق الغرب في ممارسة قتل خصومه من الشعوب الاخرى ببراعة فريدة ، دون اعتبار لوازع اخلاقي ، او اعتبارات انسانية او دينية . ويمضي هانسون في سرد رأيه ، حيث يشير الى ان التفوق الثقافي لأمة او جنس معين يتجسد في المعارك والحروب التي تخوضها ، ويؤكد من خلاله ان التفوق الثقافي للغرب لم يتأتّى الا عبر الانتصارات الحاسمة للآلة العسكرية الغربية ، التي تصدر الموت بكل براعة للشعوب الأخرى .
والعجيب ان موقف هانسون هذا لا يأتي في سياق النقد لهذه السياسة ، ولكن في اطار التباهي والتفاخر بهذه السياسة المؤدية الى الهيمنة .
هذا هو بإختصار الدكتور فيكتور ديفيز هانسون ، ولن ازيد .
اما مناسبة مقالته المنشورة في جريدة الشبيبة ، فهي تجئ في معرض الرد على الكاتب الامريكي "بول كاين" الذي قام بدوره بنشر مقالة في صحيفة نيويورك تايمز – يصفها هانسون بالمقال الغريب – اثبت فيه – على مايبدو – رأيه في السياسة الخارجية الامريكية القائمة على لعبة المصالح بالدرجة الاولى ، وعارضا من خلالها الايديولوجية الامريكية البراجماتية ، التي لا تلتفت كثيرا الى الاخلاقيات ، ولا المشاعر الانسانية . يقول بول كاين – وفقا لهانسون - : " ان بإمكان الولايات المتحدة ان تضحي بدعمها لتايوان الديموقراطية مقابل تريليون دولار امريكي " ، واسترسل بول كاين قائلا : " ان الصينيين سوف يشعرون بالامتنان لنا للسماح لهم بوضع ايديهم على جزيرة تايوان ، لدرجة انهم سوف يتسامحون معنا عن معظم الديون الامريكية المستحقة للصين " .
اثار هذا الرأي حفيظة هانسون ، مما دعاه الى تحبير هذه المقالة ، التي تنجلي فيها اثر البيئة الامريكية ، والاعلام الامريكي الموجه . يرد هانسون متسائلا في معرض رده على مقال بول كاين : " اذن لماذا تخاطر الولايات المتحدة الامريكية من اجل ضمان امن بلدان مثل اسرائيل و تايوان؟ ولماذا لا تراهن امريكا على اعداء تلك الدول الاغنياء؟ " .
لا يخفينا هانسون سرا عن ماهية هؤلاء " الاعداء الاغنياء " – على حد تعبيره – ولا يطيل السرد حين يقول عن " الاعداء الاغنياء " : " ان الشرق الاوسط العربي لديه النفط ، ومئات الملايين من الناس ، والعديد من الارهابيين المسلمين الراديكاليين الخطرين ..." .
واضح ان هانسون مؤمن بالعقيدة الاعلامية للولايات المتحدة ، التي تعلن دوما وابدا دفاعها عن المظلومين في شتى اصقاع المعمورة ، ويريد ان نصدق نحن بدورنا هذا الادعاء . فاسرائيل باتت دولة ضعيفة تستدعي الشفقة ، وتحول العرب الى جلادين بقدرة قادر ، اصبحنا – على مايريد هانسون – اشرارا اغنياء يملكون النفط ، ومئات الملايين من الناس الذين لا تراهن عليهم الولايات المتحدة ، لانهم على مايبدو ليسوا اهلا للثقة .
ويكمل هانسون مسلسل تلميع السياسة الامريكية فيقول : " يجب على الرئيس اوباما ان يتذكر ان امريكا لا تفكر بشكل حصري حسب المنفعة الوطنية ، وفي واقع الامر فإنه يبدو ان الولايات المتحدة تميل الى حماية الدول الصغيرة والضعيفة ، فمثلا استغرق الامر حربين و 12 سنة من مناطق حظر الطيران في العراق ، من اجل انقاذ الاكراد من صدام حسين " .
يا لهذه الدولة العظيمة التي تضحي بأبنائها ، واموالها ، فقط من اجل انقاذ الاخرين المستضعفين ، وليس لشئ آخر !! .
هكذا يتمنى هانسون ان نفكر ، وهكذا يريدنا ان نقول .
ولا يجد صاحبنا غضاضة ان يعلن ميله الصريح ، وتعاطفه الواضح لاسرائيل ، حيث يقول بحرقة : ".... فنصف يهود العالم قتلوا في المحرقة النازية...". ويقول في سياق اخر : " لقد كانت اسرائيل معرضة للزوال في حرب سنة 1971م لولا المساعدات العسكرية الامريكية الضخمة " . ويقول ايضا : " اسرائيل وتايوان وكردستان واليونان وارمينيا هي دول ديمقراطية ، تمكنت من المحافظة على بقائها على مر التاريخ ، رغم كل الصعاب " .
كنا نتمنى من هانسون وهو استاذ التاريخ ان يسرد علينا تاريخ دولة اسرائيل الطويل على مر التاريخ الذي يتحدث عنه !.
ويختم هانسون مقاله بالفقرة الآتية : " ... لكن وحتى لو انطوت حماية تلك البلدان الصغيرة على المخاطرة ، فإن اهتمامنا يعكس القيم التي تنفرد بها الولايات المتحدة الامريكية ، فالامم المتحدة لا تمتلك الارادة ولا القدرة على التحقق من ضمان امن تلك البلدان ، والاتحاد الاوروبي المتآكل يتكلم بشكل كبير عن القيم العالمية ، ولكنه نادرا ما يخاطر بدماء ابنائه او امواله من اجل الدفاع عن تلك القيم . ان امريكا هي الدولة الوحيدة التي لديها النزعة الاخلاقية ، والقوة اللازمة لحماية شعوب العالم الضعيفة تاريخيا والفريدة ثقافيا ، وسوف يكون من المؤسف ان ننسى ذلك بسبب رغبتنا بالربح ، او لاننا ضقنا ذرعا بالاعباء " .
قد يبدو هذا المقال مثيرا للغضب والسخط ، ومدعاة للتعجب – على الاقل لنا نحن العرب – وبالفعل فقد كان مثل هذا الكلام يؤرقني ، فأظل مستغرقا في التفكير في اوجه هذا الكلام ، اذ كيف يمكن ان يوجد انسانا واحدا يعيش على ظهر البسيطة لم يدرك بعد التوجه الامريكي ، وسياستها الرامية الى السيطرة ، وزيادة النفوذ ، والتنقيب عن مصالحها السياسية والاقتصادية؟ هذه السياسة البعيدة جدا عن أي ايديولوجيا تلامس اهداب الانسانية ، والتي من الممكن ان تدور الولايات المتحدة في فلكها .
لم اكن اقتنع في حينه ان هناك من لا يوافق على هذا الكلام جملة وتفصيلا . لم ادرك ساعتها ان الاختلاف الفكري سنة كونية لا مفر منها ، تماما كما نختلف في الوجوه وقسماتها .
ولكن الحقيقة كانت بعيدة بعض الشئ عن هذا الاعتقاد ، يقول علي الوردي – عالم الاجتماع العراقي : " العقل في حقيقة امره نتاج اجتماعي ، وهو صنيعة الثقافة الاجتماعية التي ينشأ فيها الانسان " . فقد يظن الانسان انه حر في تفكيره ، ولكنه في الحقيقة يفكر الى حد كبير بعقل مجتمعه . فهو يميز بين الصواب والخطأ وفق مايملي عليه مجتمعه الذي نشأ فيه ، فالعاطفة والمصلحة وحدود المعرفة والعادات والتجارب التي طواها النسيان – وظلت محفورة في اللاواعي – بل وحتى العقد النفسية ، كلها تؤثر قليلا او كثيرا في حيادية التفكير التي يدعيها الانسان دوما ، وتشكل له مقاييسا فكرية خاصة ، وخطوطا فكرية عريضة ، لا يخرج الانسان من اطارها في الغالب .
هذا ما قد نلمسه ونتحسسه من مقالة هانسون سالفة الذكر . وفي غالب الامر لم يتعمد هانسون الكذب علينا في ما قاله آنفا ، ولكنه وقع اسير المجتمع والاعلام الموجه في الولايات المتحدة الامريكية .
وسأسوق هنا امثلة لمثل هذا التوجه في امريكا ، وهو السائد على ما يبدو ، او قل هو الطاغي على السياسة الامريكية ، وعبر الآلة الاعلامية الموجهه . فلم يطوِ النسيان بعد قول الرئيس الامريكي الاسبق " بيل كلينتون " اثناء حفل تنصيبه : " ان امريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري ، واننا نستشعر ان علينا التزاما مقدسا لتحويل العالم الى صورتنا " .
ان الغرب الذي يؤمن بعض اساطينه بنظرية " نهاية التاريخ " – أي ان الغرب قد وصل الى قمة الرقي الفكري ، وانه لم يعد في الامكان ابداع اكثر مما كان – ينطلق من ضوء هذا المعتقد من اجل فرض فكره وقيمه وعاداته علينا – ولو قسرا- وذلك تحت مسمى " عولمة العالم " ، وهذا مكمن الخطر .
فقد حارب الغرب الدين ، واستهجن اعتبار الكتب السماوية مقدسا ، ولكنه وللمفارقة ، احل مقدسا بمقدس ، حيث ان هذه القيم الغربية ، والتي يسميها " قيما عالمية " ، اصبحت – شئنا ام ابينا – مقدسة مبجلة ، فلا يمكن مخالفتها ، او الخروج عليها ، والا قامت الدنيا ولم تقعد .
واسوق هنا مثالا اخر للكاتبة " د. لاينا فرهات " من مؤسسة " فاميلي سكيوريتي الامريكية " حيث قالت في مقالة لها ، تحت عنوان " الثقافة وتأثيرها على الفقر " والمنشور بتاريخ (18/12/2007م) : " ان الصين واليابان والهند مؤخرا اظهرت بأنها لا تخشى تبنّي القيم الغربية الحديثة في تنمية مجتمعاتها ، انهم الآن يقطفون ثمار النجاح . اما العالم الاسلامي ، ودول افريقيا الوسطى فليسوا كذلك ، انهم في النهاية سيفعلون ذلك ، لكن عبر مسيرة بطيئة ، لا شك في انها ستكون دموية ، ولن تجدي الاموال نفعا في هذا المجال " .
يتضح جليا من هذه الفقرة ان الدكتورة لا ينا ترى ان القيم الغربية الحديثة هي المخلص الوحيد لازمة التخلف في العالم ، انه المنقذ والمبشر الذي سيملئ الدنيا علما وتقدما ، كلما ملئت جهلا وتخلفا .
وفي اخر سياقات الاستشهاد ، ارفع عن كاهلي عناء تصوير آلية التفكير الغربي الامريكي على وجه الخصوص ، نحو الشعوب الاخرى ، برأيٍ للكاتب الفرنسي "ميشال بوغنون" ، وذلك بإستقطاع فقرة من كتابه " امريكا التوليتارية " (منشور عام 1997م) ، اذ يقول : " التفكير الجمعي الامريكي يقوم على قاعدة ايديولوجية راسخة ، محورها ان الولايات المتحدة قامت كمجتمع ودولة اصلا لانها مكلفة برسالة سامية ، وبناءً على هذا الايمان يركن التفكير الجمعي الامريكي الى يقين راسخ بأن اداء هذه الرسالة يفرض استخدام كل الوسائل ، دون تحريم ام تردد . هذه العناصر مكونات رئيسية في جوهر الولايات المتحدة كدولة ، وفي مواقفها واسقاطاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية بالنسبة لباقي العالم " .
لا اخفيكم انني عندما بدأت الحديث لم اكن اود الاسهاب ، او الاستشهاد بأقوال احد ، ولكن الكلام يجر بعضه بعضا ، ولمثل هذا الموضوع شجونا ، يقسرنا قسرا على الاطناب ، فقد كنت ارغب بالتوجه بالخطاب نحو جريدة الشبيبة الغراء ، حيث في الحقيقة لم افهم ماهي الفائدة المرجوة من نشر مقالة هانسون على صفحتها؟
وقد اسأت الظن في الصحيفة – واستغفر الله على ذلك – حيث خطر في حينه ببالي تساؤلا مفاده : هل تود الصحيفة إغاضة القارئ العربي المفجوع اصلا منذ نعومة اظفاره ، وبداية تلمسه واقعنا المنكوب؟
لماذا تم اختيار هذه المقالة بالذات للنشر من بين كل المقالات المنشورة ، والتي قد نجد في كثير منها فائدة جمة؟
صحيح ان من عادة الصحف ان تسطر في اعلى صفحة المقالات : ان الاراء الواردة لا تمثل بالضرورة رأي الصحيفة ، ولكن الذي اعتقده ان الصحف قد تنشر مقالا لا توافق على بعض ما يعرض فيه ، لكنه يتوافق مع التوجه العام للصحيفة ، فليس من المستساغ مثلا ان تنشر صحيفة ليبرالية التوجه على صفحاتها مقالا دعائيا للشيوعية ، يسطر فيها الكاتب مميزاتها ، ويمجد الماركسية ، ويذم الديموقراطية والرأسمالية . ولن نجد صحيفة غربية ذائعة الصيت تعرض مقالا ينفي او حتى يشكك بالهولوكوست ، واذا فعلت – ولن تفعل – قامت الدنيا عليها ، وربما تعرضت للاغلاق بفعل حكم قضائي وضغط شعبي .
هل ترى صحيفتنا الغراء انه من المفيد ان نطّلع على الاراء الاخرى المخالفة لوجهة نظرنا ولهذا تعمدت نشر مقال هانسون؟!
ولكن هل في الواقع اننا نرى ونسمع عبر الاعلام الا تمجيدا لامريكا؟ فإذا قرأنا صحفنا المحلية فضلا عن الصحف الاجنبية وجدنا تمجيدا لامريكا – ومقالة هانسون مثالا على ذلك – واذا انتقلنا الى القنوات الاعلامية العالمية صُمّت آذاننا ونحن نسمع التطبيل للديموقراطية والعدالة والحرية الامريكية .
هناك مقالات كثيرة جدا من الممكن ان يستفيد القارئ العربي مما فيه ، اكثر مما لو قرأ مقالة هانسون هذه ، فإنها لم تقدم لنا جديدا سوى انها ربما قد اسهمت في رفع مستوى السكر والضغط في بعض القراء المساكين اعاننا الله واياهم .
وفي الختام اجد نفسي ميالا الى الاستشهاد بقول المؤرخ البريطاني " ارنولد توينبي " حين يقول : "كنت دائما اخشى القول بأن القراصنة – لا العباقرة – هم الذين يصنعون التاريخ ، الذي هو في حالته الراهنة الابن غير الشرعي للجغرافيا ".
قد يجد البعض هذا الاقتباس بعيدا بعض الشئ عن موضوعنا المطروح ، ولكنني سقتها تحت تأثير امر غامض لم ادرك كنهه ، وما ادراني فربما يكون هذا التأثير من مخلفات العقد النفسية التي ترعرعت في نفسي من فيض عطاء مجتمعي الذي اعيشه !.
الى هنـا انُهي حديثي وانتهي وما شئتَ في حقي من الخير فاصنعِ
فإنك اهل الجود والبر والتقى ووضع الايادي البيض في كل موضعِ