السبت، 17 سبتمبر 2011

فـَهـِمْتـُكـُمْ

شعر عبد الرحمن بن صالح العشماوي 


فهمْـــــــــتُكمْ بعدَ أعـــــــوامٍ وأعْــــــوامِ --- الآنَ أدْركتُ ،تفــــريـطِي وإِجْـــــرامي
الآنَ أدْركتُ معـــــنى أنَّكــــــــــــم بشرٌ --- لكمْ حقـــوقٌ ، ولســــتُم محــــضَ أنعامِ
فهمـــــتكم يا بَني شعـــبي وقـــــــدْ لعِبتْ --- بكُمْ جنــــــودي وقـــــــــوَّاتي وأَزْلامـي
نعم ، ملأْتُ سجــــــوني من أكَارِمــــــكمْ --- وكَانَ تعـــــذيبُــــهم رمْــــزاً لإقْـدامي
حكمتُ بالسِّجــــــنِ تأبيـــــــداً لطائــــفةٍ --- أَصْلَيْـــتُها في سجـــــــوني نـــــارَ آلامِ
ولَمْ تَـــدَعْ سَــــعْيَــــها للدِّيــــنِ طائـــفةٌ --- أُخـــــرى ، فأصْـــدَرْتُ فيها حُكمَ إعْدامِ
جَعَـــلْتُ أرضكُم الخضـــراءَ مُعْــتَـــقَلاً --- حقَّــــقتُ فـــــــــيهِ بسيفِ الظُّلْمِ أحلامي
أطْــــلَقْتُ فيـــكم على ظُـــــلْمٍ جَلاَوِزَتي --- ما بــــــــينَ لصٍّ وكـــــــــذَّابٍ ونــــمَّامِ
نعمْ ، جَعَلْـــتُ بيـــــوتَ اللهِ خــــــــاوِيةً --- مِـنْ كُـــــــلِّ داعٍ وصــــــوَّامٍ وقــــــوَّامِ
حتى الأذانُ تــــوارى عـــن مآذِنِـــــــكم --- وعن وســائل إعــــــلاني وإعـــــلامي
أمَّا حجابُ العذارى فهـــــو مُعْـــــضِلةٌ --- حَاربْتُــــها بإهـــانــــــاتي وإرْغـــــامي
نَعَــم ، جعلتُ منَ الطُّغــــــيانِ لافِـــــتةً --- فـــــيها معَـــالِمُ مِنْ قَــــسْـري وإلْزامي
لكِنَّني الآنَ يا شعــــبي وقــــــد سَلَـــفَتْ --- أيَّامــــــــــــكم بمآســــــــيها وأيَّـــــامي
أقولُـــها ، ونجـــومُ الليــــــلِ تَشْهَدُ لي : --- فهِــــــمْتُكم ، وإليكم فـــــضْلُ إفْــهامِي
فهِـمْتُــــكم ، فلــــقدْ صرْتم عَــــــمَالِقـةً --- وكُنتُ أبـــــصرُ فيكم شــــكلَ أقْـــــزامِ
فهـــمتها الآنَ ، إنِّي قـــدْ ظَـلَمْتُ ، ولـمْ --- أرْحـم فــــــــقيراً ، ولمْ أَلْطُفْ بأيْـــــتامِ
ولمْ أقــــــدِّمْ طـــــعاماً للجـــــياعِ ، ولم --- أقــــــــدِّمْ المــــــاءَ للمُسْــــتَنجدِ الظَّامي
ولمْ أقـــــــــدِّمْ ثيــــــاباً للعُــــــراةِ ، ولم --- أمنح تلاميــــــذكم حِــــــبراً لأقـــــــلامِ
فهِمْتُكمْ ، فافْهَـموني ، وافْهموا لُغـــــتي --- وقابـــــلوا لُؤمَ أخــــلاقي بإكــــــــــرامِ
إنّي سأفتَـــــــحُ أبـــــوابَ العــطاءِ لكـم --- وســوفَ أُصـــــــدِرُ للإصلاحِ أحكامي
هــيَّا ، ضعوا في يدَيْ أيـــديْ تعاونُكــم --- يـــا أخـــوتي وبني عــــــمِّي وأرْحامي
إنِّي صحوتُ على نورِ الصَّباحِ ، وقــدْ --- طـــوَيتُ عِقْـــــدَينِ في ظُلْمٍ وإظـــــلامِ
فهمتكم ، أيُّــها الشعــبُ الذي دعَسَـــتْ --- أحلامَه في طــريقِ الجَــــوْرِ أقــــدامي
الآن أدْركـــتُ أنِّي كـــنتُ في نفـــــــقٍ --- منْ غفْــــلَـــتي وضــلالاتي وآثــــــامي

                                          *** *** **

أَنْهى الحـــــديثَ ، ولمْ يفـطن لخطبـــتهِ --- إلاَّ الصَّــدى و الّلَظى في قَـــلْبِه الدَّامي
وجَلْجَــــــــلَتْ صرْخةُ المستـهزئينَ بهِ : --- فــــــاتَ الأوانُ ، فلا تركن لأوهــــــامِ
نســـــيْتَ أنَّ لنــــا ربًّــــــا نلــــوذُ بـــهِ --- إذا تَـــــــطَاوَلَ فـينا جَـــــــورُ حُــــكَّامِ





تابع القراءة ....

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

هلْ واحدٌ منْ بينكمْ يعرفُ معنى الشَّام؟!

طالب بن عبد الله آل طالب
السبت29شعبان1432هـ
1-  كانت الطائرةُ تهبطُ بنا تدريجيًا سماءَ دمشق.. وكنتُ منصرفًا بكلِّ حواسّي لمتابعة المنظرِ الذي تطلُّ عليه النافذة.. لا أدركُ منه سوى ما يمنحهُ النظرُ الكليل.. هذه الأرضُ المباركةُ.. فكحّلْ عينَك أيّها العاشق.. يحتضنُها من الشمال الجبلُ الأشمُّ قاسيون.. وعلى جانبيها جنّتان.. أرضٌ درجَ عليها الأنبياء.. وسَرى بليلها الضياء.. وكان بها عزّ الإسلامِ.. ومدفنُ العظام العظام.. تكادُ تجدُ تحت كل صخرة أثرًا من ذكرى.. وحكايةً من غرام..
لم يبلغ بي الشوقُ لزيارةِ أرضٍ كما فعلَ بي مع الشام.. ولم أروِ منها نظري بعدُ.. وقد كرّرتُ زيارتها مرّاتٍ ومرات..
أعْلنوا من غرفةِ القيادة: مرحبًا بكم في مطارِ دمشقَ.. وقد وفوا لدمشق فلمْ يخطِفوا اسمَ المطار لكبيرٍ ولا صغير.. وللمكانِ قداسةٌ وذكرى لا يحسنُ أن تنتهكها أسماءُ الذوات..
2-  كان بي شوقٌ لرؤية القلعةِ التي سُجن بها شيخُ الإسلام.. وزيارة مرابعِ الحنابلة الكرام.. والصلاةِ بالجامع الأموي.. والتبضّعِ من سوق الحَميديّة.. ورشفِ قطراتٍ من برَدى.. والوقوفِ على قاسيون.. كان صوتُ ابن تيمية الحرّاني يسْري في خلَدي وهو يُقرّر "أنه قد جاء في فضل الشام وأهله أحاديثُ صحيحة.. ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره.. وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره".
 وكانَ عليُّ الطنطاويُ يتسامى في بيانٍ عجيب: "دمشق.. وهل توصف دمشق.. هل تُصوّر الجنةُ لمن لم يرها.. كيف أصفُها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود.. من يكتبُ عنها وهي من جنات الخلد الباقية.. بقلمٍ من أقلام الأرض فانٍ..
دمشق التي تعانقها الغوطةُ.. الأم الرؤومُ الساهرة أبدًا. تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة وقهقهة الجداول المنتشية من رحيق بردى.. الراكضة دائما نحو مطلع الشمس.."
وكانَ نزارُ بن توفيق يُنشدُ في حزنٍ كبير:
"مسقطُ رأسي في دمشقَ الشام
هل واحدٌ من بينكمْ يعرف أينَ الشام؟
هل واحدٌ من بينكم أدمن سكنى الشام؟
رواه ماءُ الشام
كواهُ عشق الشام
تأكّدوا يا سادتي...
لن تجدوا في كل أسواق الورود وردةً كالشام
وفي دكاكينِ الحُلَى جميعها.. لؤلؤةً كالشام
لن تجدوا مدينةً حزينةَ العينين مثلَ الشام"
وكنتُ في مقتبلِ حياتي حفيًّا بثقافةٍ يأسرُها فقهُ عالمٍ و جمالُ أديبٍ وإبداعُ شاعر.. لا تؤاخذُ كلّ طرفٍ بما يريده الآخرون.. ففعلت بي تلك النقولُ الأفاعيلُ.. وشقَّ بي ذلك التكوينُ.. وأدركتُ أنَّ لنفسي من هوى الشام زمانًا لا يزدادُ إلاّ مدة.. ونظرًا لا يرتدُّ إلاّ أكثرَ حدة.. وحقائق لا تستطيع وصفَها دقائقُ السطور..
3-  خرجنا من المطار.. وفاجأتني الصورُ التي لم تكن وقتئذ موجودةً ببلدي.. تدعو بالبقاء للرئيسِ المعظم.. وتهتفُ باسمه المجيد.. وتزعم أنّه سيكون القائدَ للأبد.. البناياتُ والطرقات.. الأنفاقُ والجسور.. المدارسُ والدور.. ما الأمر.. سألتُ السائقَ.. فأجابني: صدِّقني يا بُنيّ الصورُ حين تخرج من القلوب تسكنُ الجدران.. لم يكنْ بعد ذلك البيانِ بيان.. حانت مني التفاتة للخلف.. وإذا صورة السيد الرئيس على الزجاجة الخلفية لسيارة صاحبنا.. عدت لسؤاله من جديد وأجاب على الفور: لنتذكر لعنه في كل حين.. أخذتنا فترةُ صمت.. وتلفّتنا بكل اتجاه.. ثم قال بعد تنهيدة طويلة "مغلوبون على أمرنا يا سيدي.. والله مغلوبون".
 4-  لمْ يستغرق الأمر طويلاً لأتبيّن حقيقة قول نزار: لن تجدوا مدينة حزينة العينين مثل الشام.. وقد رأيتها بعد طُهر الأمويين ملطّخة بأدران البعث.. لا تكاد تقضي لك بها شأنًا إلاّ بدفع رشوة.. يحاصر بها الكبراء حريات المساكين.. و بردى يغالبُ سلسالاً من الماء تراه يجري مرة ويختفي مرات.. وبنايات قديمة جدًا ومركبات.. ومظاهر من فوضى وشتات.. ذات يومٍ وأنا أتجوّل بسوق الحميدية.. وعلى حين غفلةٍ مني.. خطف صبيٌ محفظتي.. ولم يكن بها سوى ما يعادلُ ألف ليرة.. أدركه العسكري الذي استنجدت به وبعضُ المارة فأمْسكوه.. وحين أعادوها لي قررت مسامحَته.. إلاّ أنهم أشعروني بأهمية الأمر.. وطلبوا منّي التوجه معهم لمخفرِ الشرطة.. ضاعتْ عليّ فرصةُ الاستجمام ذاك اليوم.. ولم يزلْ رئيسُ المخفر - وهو ينفث دخانه باتجاهي - يؤكّد لي حرصه على أمنِ السائحين.. ويستعرض قدراته في استنطاق السارق الصغير باستخدام عصا كهربائية كانت معه حتى اعترف.. ثم استمرّ يتحدث بإشارات كثيرة مفهومة وغير مفهومة كلفتني أخيرًا حين أدركت مغزاها ألفي ليرة.. وددت أنها كانت بيد الصبيّ الجائع وليس الشرطيِّ الشبعان.. وقررت بعدها ألا أمنعَ محفظتي أبدًا من يد أي سارقٍ بالشام.. وحزنت حزنًا كبيرًا.. هربتُ من حزني ذاك إلى حي الميدان.. وزرتُ العالم النبيلَ عبد القادر الأرناؤوط أسأله عن صحة حديث ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)) فقال لي: "نعم هو حديث صحيح، ولا يزال بالشام خير كثير" وكان فعلاً حين أعدتُ النظر خيرٌ كثير..
5-  كان منظرُ قاسيون من بعيد يحيّي على الزيارة.. وله مغناطيسٌ يجذب إليه الأرواح..
من قاسيون أطلُّ يا وطني...
فأرى دمشقَ تعانقُ السُّحُبا
تراه وقد ارتفعت في سفحه الأحياءُ حتى تكاد تبلغ منتصَفه.. وهو شامخٌ كـ"قاسيون" لا تستطيع أن تجد له وصيفًا فتقاربَه به.. لم يعط الدنيّة لمستبدّ.. أو يضع رأسَه لطاغوت.. وقالوا في سبب تسميته أنه قسا على المشركين فلم ينحتوا منه صنمًا.. هو المَعلم الأثيرُ هناك.. يُشرفك على دمشق وغوطتيها.. ويوقفك على صورةٍ متحركة لا تفترُ من زحام الأسواق وضجيج المركبات.. ويرحلُ بك في الذكرى.. لتنعم بمشاهد لا يستطيعُ وصفَها البيان.. فيها وعْظ الأرواحِ سابقٌ لقرار العيون.. وحديثُ الهوى متقدمٌ على جميل اللحون.. ومزيجٌ من غرام قديم وذكرياتٍ وشجون..
 6-  وحين عرفتُ عن دمشقَ الإجمال على ظهر قاسيون.. ذهبت أبحثُ عن التفاصيلِ في زواياها.. الصالحيةُ ودمشق القديمة.. والمكتبةُ الظاهرية وقبر صلاح الدين.. وباب توما.. ومقبرة بابِ الصغير.. والجامع الأموي، وقد كان تحتَ كلّ ساريةٍ فيه حلقة علم.. والبناياتُ المعمّرة الهازئةُ بقصر أعمار الآدميين وغرورِهم.. ودروب طويلة تسير فيها القدم فتتعب.. ولا تتعب الروح.. ثم وردتُ بيتَ صديقي الشاميِّ ضيفًا وهم أهل ودّ وضيافة فرأيت عجبًا.. الفسحةُ السماويةُ في بطن الدار.. لا يسترها سقفٌ.. ينفذ لها الهواء.. وتتوسطها نافورةُ ماء.. لا تكاد تخطئها البيوتُ الشاميّة.. ونقوشٌ معروفة اللون والأشكال تكسو الأرائكَ والجلسات.. وفاكهةُ المشمش أولُ غرامٍ يعانق في الضيافة شفاهك.. والماء الذي لن تشرب مثله.. حتى لو حملته معك لبلدك.. يفقد عذوبتَه بمغادرة الديار.. وأحاديثُ ماتعة تغلب فيها طريقةُ الكلام الفكرة.. ويذهب معها الخيالُ في سكرة.. ويتخللها كما يقول الشاعر نزار: حزنٌ كبير..
7-  وفي يوم قائظٍ من أيام آب اللّهاب.. خرجتُ إلى الزبداني.. وصلتُ إلى نبعِ بردى.. شربتُ من عذب مائه حتى ارتويت.. وتجوّلتُ بمركب له مجاديف في بحيرتِه الصغيرة.. ثم انصرفتُ إلى مزرعةٍ قريبة تؤجر للراغبين.. جلستُ في عريش قد هيّؤوه.. والسواقي الباردةُ إلى جواري تدلُّ مياه بردى على أشجار الثمار المختلفة.. وأقبلت فتاتان صغيرتان اسم واحدةٍ منهما ميسون.. تعملان مع أهلهما في خدمة المزرعة.. وهما المسؤولتان عن واجبِ الضيافة.. رأيتهما تغسلان الآنيةَ من الساقي.. ثم تسيران إلى تلك الأشجارِ فتقطفان من ثمارها ما تطوله يداهما الصغيرتان.. حتى استتمَّ لهما سبعةُ أنواع أو ثمانية.. من أشهاها الكمّثرى وثلاثةُ أنواع العنب.. ثم ترشّان عليها ماء باردًا له لون بردى وطعمُه.. وتقدمانها لي.. ولا والله ما ذقتُ شيئًا أشهى أو هكذا يُخيّل لي.. وكأني أستعيدُ رشفَ بردى في تشكيلاته الجديدة..
وما ذقت طعمَ الماءِ إلاّ استخفّني
إلى بردى و"الطفلتين" حنينُ
8-  ولم أزلْ بعدُ في كل رحلاتي التي وصلتُ بها سِدني بـ"كندا".. والبرازيلَ بأمريكا.. لم أزلْ أجد من أهل الشامِ علماء وصالحين تفرّقوا في الديار.. وتركوا لذّة العيش بأوطانهم مطرودين وملاحقين.. مُنيةُ الواحدِ منهم أن يروي ظَماه من بردى.. أو يعفّر جبهتَه بتراب الشام.. وفي كلمات أستاذ الحنين الشاميِّ الزركلي خير مثال عليهم.. وهو يترنم بهذه الأبياتِ.. يلفظ معها آخر أنفاسه على ضفاف النيل:
العينُ بعد فراقها الوطنا              لا ساكنًا ألفتْ ولا سكنا
ريـانةٌ بالدمــع أقلـقها                 أنْ لا تحسَّ كرًى ولا وَسَنا
يا موطنًا عبث الزمانُ به            من ذا الذي أغرى بك الزمنا
عطفوا عليك فأوسعوك أذًى         وهمُ يُسمّون الأذى مننا
وحنَّوا عليك فجرّدوا قضبًا          مسنونةً وتقدموا بقنا
يا طائرًا غنّى على غصن           والنيلُ يسقي ذلك الغصنا
زدني وهجْ ما شئتَ من شجني      إنْ كنتَ مثلي تعرفُ الشجنا
أذكرتني ما لستُ ناسيَه              ولربّ ذكرى جدّدت حزنا
أذكرتني بردى وواديَه               والطيرَ آحادًا به وثُنى
وأحبةً أسررتُ من كلفي            وهواي فيهم لاعجًا كمنا
كم ذا أغالبُه ويغلبني                 دمعٌ إذا كفكفتُه هتَنا
لي ذكرياتٌ في ربوعِهمُ            هنَّ الحياةُ تألّقًا وسنا
ليت الذين أحبّهم علموا             وهمُ هنالك ما لقيتُ هنا
وهكذا كان شأنُ الثلاثةِ الرفاق.. فأمّا ابن تيمية فقد حُبس بالقلعة.. وما كانوا يضطرون أحدًا للرحيل.. وبقي قبرُه عند التكيّة السليمانية.. يقول الأستاذ زهير أحمد ظاظا: في شتاء عام (1996م) كنت أتجوّل في دمشق بالقرب من التكية السليمانية فاستوقفني سائح أوروبي يسألني بالعربية: هل يمكن أن تساعدني؟ فقلت له: على الرحب والسعة وفي ماذا أساعدك؟ فأخرج خريطة للمواقع الأثرية في مدينة دمشق وقال لي: أنا أبحث عن قبر ابن تيمية وحسب الخريطة يجب أن يكون هنا.. وأشار إلى مكان بالقرب من مشفى الغرباء بجانب كلية طب الأسنان القديمة... ثم زرت قبر ابن تيمية فرأيت شاهدةَ القبر مكسّرة متناثرة حول القبر ولم يبق منها إلاّ كلمة (تيمية) والتقطت مجموعة صور للقبر ومعه قبر تلميذه ابن كثير.. أه.. وأمّا الطنطاوي فقد كتب الله له بمقبرةِ العدل مكانًا.. غريبًا هناك إلى جوار الكعبة في البلد الحرام قضى وهو يقول: "حرم الله الجنة من حرمني رؤية قاسيون" وأمّا نزارُ فقد فاضت روحه بعيدًا طريدًا.. ثم حنّوا على جسده.. فقبلوا دفنه إلى جوار والده تحت شجرة زيتون بالشام..
 9-  هذه هي الشامُ.. بستانُ الروح.. والفخرُ بها للمادح لا الممدوح.. نغار من الطيور التي تحومُ سماءها.. لا يُطلب منها تقديم ولاءٍ ولا اصطناعُ ودّ.. ونغتاظُ من الأيدي التي لم تزل تهدمُ من مجدها صروحًا لا تستردّ.. ونؤمل في صبحٍ يَطوي الليلَ الخانق.. وتتنفسُ له الأزهار.. وتشرق به شمس الهناء والخلاص..
ويا ساكني الشام كلِّها.. من حلب المتنبي وحمص ابن الوليد.. إلى اللاذقيةِ وحماة النواعير.. ومن أذرعات إلى جسرِ الشغور.. استلهموا مجدكم من تلك الزوايا.. وخذوا عزمكمْ من تلك الطرقات.. وجُدّوا في سبيل تطردون بها الأسدَ.. وذوي الأنياب حوله.. وتنهون حكم الغاب.. واغسلوا عن دمشق –أرجوكم- قذى علق بثيابها.. وامسحوا غبارًا استطال على لمّتها.. واكتبوا لكم في سفر الخلود ثورة.. يترحم لها القادمون على شهدائكم.. ويكبرون بها مسعاكم.. وتضجّ لها مساجد الدنيا بالتكبير.. ثورة يبردُ لها رفات الأمواتِ في أرضكم.. وتعودُ من أجلها الطيورُ المهاجرة.. وتطلبون بها الثأرَ ممن ظلمكم.. ثورة تبترون بها اليد التي تساهم في تضييق أرزاقكم لتتبعوها.. وتقطعون بها الوتينَ الذي يتاجرُ بعداء إسرائيل وهو لم يَنلها برصاصة.. أراضيكم كلُّها شام.. وما لرقاعٍ من أرض الله فخرٌ أثيلٌ بمجد الإسلام كفخركم.. رسول الله زار أرضكم.. وما زار العراق ولا مصر ولا اليمن.. ولكم في قلوب العالمين مقامٌ عليٌّ ومؤتمن.. وكثير من الصحابة دخلوا الشام منهم: أبو عبيدة، و سعيد بن زيد، ومؤذن رسول الله بلال، ومعاذ بن جبل، و أبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وسيف الله: خالد بن الوليد، وابن عم رسول الله: الفضل بن عباس.. قال الوليد بن مسلم: "دخلت الشامَ عشرةُ آلاف عينٍ رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومئات الكتب التي نقرؤها ابتدأت سطورها في دواوينكم.. الطبراني وابن عساكر.. وابن الصلاح والذهبي.. والنووي وابن كثير.. وابن رجب وابن القيم.. والمزّي وابن قدامة.. وسواهم كثير.. درّسوا بحلقاتكم.. وكتبوا بمدادكم.. وتنفّسوا هواكم.. ولولا دمشق ما كانوا وما كانت الأندلس.. ولا زهت ببني العباس بغداد.. ولا كانت فتوح الإسلام العظام..
10-  وفي ارتباط أرضِ الشام بالحرية وبعثِ العزم يقول العالمُ ابن تيمية: "ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء.. وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمينَ على غزو التتار.. وأمري لهم بلزوم دمشق.. ونهيي لهم عن الفرار".
 والطنطاويُّ الخبير بها وبأهلها يقول: "وأهل الشام كالماء.. لهم في الرضا رقته وسيلانه.. وفي الغضب شدّته وطغيانه.. بل ربما كان لهم من البركان فورانه وثورانه".
ونزار القباني يفخرُ بدمشقَ وهو لا ينفكّ عن حزنهِ فيقول:
يا دمشقُ البسي دموعي سوارًا             وتمنّيْ فكلُّ شيء يهونُ
وضعي طَرحَةَ العروس لأجلي            إنَّ مَهْرَ المُناضلات ثمينُ
رضيَ اللهُ والرسولُ عن الشام             فنصرٌ آتٍ وفتحٌ مبينُ
استردّت أيـامَـها بــكِ بــدرٌ                واستعادت شبابَها حطينُ
بك عَزّتْ قريشُ بعد هوان                 وتلاقتْ قبائلٌ وبطونُ
صَدَقَ السيفُ وعدَهُ يا بلادي              فالسياساتُ كلُّها أَفيُونُ
صدق السيفُ حاكمًا وحكيمًا              وحدَه السيفُ يا دمشقُ اليقينُ
علّمينا فقهَ العروبةِ يا شامُ                 فأنتِ البيانُ والتبيينُ
علّمينا الأفعالَ قد ذَبَحَتْنا                   أحرفُ الجرّ والكلام العجينُ
علّمينا قراءةَ البرق والرعد               فنصفُ اللغاتِ وحلٌ وطينُ
أوقدي النارَ فالحديثُ طويلٌ             وطويلٌ لمن نحبُّ الحنينُ
واركبي الشمسَ يا دمشقُ            حصانًا ولك اللهُ حارسٌ وأمينُ
ومرّت الأيامُ.. ومضى الرفاقُ الثلاثة.. وبقيت الشامُ.. تنقل صورَها الشاشاتُ.. وتتابع ثورتَها الأقلام.. وعشاقٌ بعيدون هناك في كل أنحاء العالم يردّون صدى الصوتِ الذي ينادي برفعِ الظلم.. ويحرّكون أقدامهم في دروبِ الحريّة.. يعتقدون أن ليس ثمَّ بلدٌ أولى بالثورة من بلادهم.. ويمدون أيديهم نحو السماء يصيحون: يا ربّ.. يا ربّ.. يا ربّ.. ومطعمهم ثمارُ الشام.. ومشربهم مياهُ الشام.. وملبسهم غرامُ الشام.. و غُذّوا بالشام.. فعسى أن يُستجابَ لهم..


تابع القراءة ....

هل حكم بريطانيا ملك مسلم؟

أ. أورخان محمد علي

   من يفتح الموسوعة البريطانية أو الموسوعة الفرنسية "لاروس" على كلمة "أوفا" (OFFA)، فإنه يقرأ تاريخ هذا الملك الأنجلوسكسوني الذي حكم إنجلترا 39 عامًا (اعتبارًا من 757م حتى 796م)، وكان من أقوى ملوكها في ذلك العهد المبكر من تاريخ إنجلترا. كان ملكًا أول الأمر على "مارسيا" (Mercia)، أو ما يُطلق عليه اسم "إنجلترا الوسطى" (Middle England) التي كانت مملكة ملكية ضمن 7 ملكيات كانت موجودة آنذاك. وقد وسّع مملكته بعد أن فتح هذه الملكيات الصغيرة حوله أمثال "كنت" (Kent) و"وست" (West) و"ساكسونس" (Saxons) و"ولش" (Welsh)، كما قام بتزويج بناته من حاكم "وساكس" (Wessex)، وحاكم "نورثومبيا" (Northumbia)؛ فوسع بذلك دائرة نفوذه حتى شمل كل أجزاء إنجلترا تقريبًا، ودخل في معاهدات مع ملك فرنسا "شارلمان" ومع البابا "أندريان الأول".
والأثر المهم الباقي من عهده هو السور أو السد الذي بناه بين "مارسيا" و"واش"، الذي يُعرف حتى الآن بـ"سور أوفا".

إلى هنا فكل شيء اعتيادي..

ولكن عام 1841م حمل معه مفاجأة كبيرة للمؤرخين؛ فقد تم العثور فيه على قطعة نقد ذهبية غريبة تمامًا تعود لعهد هذا الملك الإنجليزي القوي.

ولكن أي غرابة في هذه القطعة الذهبية المحفوظة الآن في شعبة النقود القديمة في المتحف البريطاني لكي تُعدّ مفاجأة؟!

الغرابة أننا نجد كلمة الشهادة وآية قرآنية مكتوبة باللغة العربية على وجهي هذه القطعة النقدية.

 
وإليكم التفاصيل:

ففي أحد وجهي القطعة توجد كتابة باللغة العربية، وهي "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي الحافة كتبت عبارة "محمد رسول الله"، ثم الآية الكريمة {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33].

أما في وسط الوجه الثاني فنجد كتابة عربية أخرى وهي "محمد رسول الله"، وفي وسط هذه الجملة سجل اسم الملك "أوفا" باللغة الإنجليزية. أما في الحافة فقد كتب باللغة العربية: "بسم الله.. ضرب هذا الدينار سبع وخمسين ومائة".

وكما يفهم من إمضاء الملك أوفا فإن هذه القطعة ضربت خلال الأعوام 757 - 796م، وسنة 157 هجرية الواردة في قطعة النقد تصادف عام 774م، وهي ضمن فترة حكم الملك "أوفا".

لقد كتبت بحوث عديدة حول هذه القطعة النقدية، وألقيت محاضرات كثيرة حولها، وقدم المؤرخون فرضيات ونظريات عديدة لتفسير لغز هذه القطعة النقدية.

أهم هذه الفرضيات هي:
1- الفرضية الأولى: إن الملك "أوفا" اعتنق الإسلام.

2- الفرضية الثانية: إن الملك "أوفا" استعمل هذه الجمل والكلمات العربية والآيات كزخرفة أو كزينة دون أن يفهم معناها.

3- الفرضية الثالثة: كان الملك "أوفا" قد عقد سنة 787م معاهدة مع البابا "أندريان الأول" تقضي بقيام الملك بدفع فدية سنوية إليه؛ فقد تكون هذه القطع الذهبية قد سُكّت خصيصى لهذا الغرض.

4- الفرضية الرابعة: إن الملك "أوفا" سكّ هذه النقود لمساعدة الحجاج من مواطنيه من الراغبين في زيارة القدس؛ لكي تستعمل من قبلهم من أجل تأمين سهولة السفر إلى هذه الديار؛ أي أن السبب كان سياسيًّا.

مناقشة هذه الفرضيات
من الواضح أن الفرضية الثانية لا تتفق مع المنطق الإنساني السليم؛ إذ من المستحيل أن يقوم أي ملك بكتابة جمل لا يعرف معناها على النقود التي يقوم بسكها ومن أجل الزينة فقط، علمًا بأن هذه الجمل هي كلمة الشهادة التي تلخص أساس العقيدة الإسلامية، وكلمة الشهادة هذه هي التي تجعل الشخص مسلمًا؛ أي ليست أي عبارة يمكن أن تكتب من أجل الزينة.

صحيح أن بعض ملوك أوربا المنبهرين بالحضارة الإسلامية قاموا بكتابة أسمائهم باللغة العربية على النقود التي سكّوها؛ أمثال "ألفانسو الثامن" و"فاسيلس ديميتريش"، وبعض أمراء النورمان أمثال "وليام دروجر"، حتى إن الإمبراطور الألماني "هنري الرابع" سكّ اسم الخليفة العباسي "المقتدر بالله" على نقود بلده لإعجابه به، ولكن لم يقم أي واحد منهم بكتابة كلمة وشهادة التوحيد على نقود بلده مثلما فعل الملك "أوفا" دون وعي، على حد زعمهم.

بالنسبة للفرضية الثالثة فإنها فرضية غريبة جدًّا وغير واقعية؛ إذ كيف يطلب البابا من الملك أوفا القيام بكتابة شهادة التوحيد على نقود الجزية التي فرضها عليه؟! فهذه الفرضية تبدو غير منطقية وربما مستحيلة؛ ذلك لأن المقام البابوي كان آنذاك من أعدى أعداء الإسلام؛ لذا فمن الطبيعي أن يرفض البابا رؤية شعار وعقيدة عدوه على النقود، حتى وإن كان على شكل زينة أو زخرفة.

بالنسبة للفرضية الرابعة:
هذه الفرضية أيضًا فرضية بعيدة الاحتمال وضعيفة؛ إذ من الصعب الاقتناع بأن الملك أوفا قد سك هذه النقود لمساعدة مواطنيه من الحجاج وتسهيل زيارتهم للقدس؛ ذلك لأن المسلمين في ذلك العهد لم يكونوا يمنعون، ولا يضعون أي عقبات أو عراقيل أمام المسيحيين من جميع الأقطار المسيحية في أوربا في زيارة المدن المقدسة لديهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسيحيين كانوا يتجولون أصلاً في البلدان الإسلامية بكل حرية قبل عهد الملك أوفا وفي عهده وبعده أيضًا. أي لم تكن هناك أي حاجة لمثل هذا التدبير.

 وقد يتبادر إلى الذهن احتمال أن بلد هذا الملك كان عاجزًا آنذاك عن القيام بسك النقود؛ لذا اضطر إلى القيام بسك نقوده في أحد البلدان العربية.

ولكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا أيضًا؛ لأن الموسوعة البريطانية تذكر أن أهم إنجاز باق حول حكم هذا الملك هو تأسيسه وسكه لنوع جديد من العملات تحمل اسم الملك واسم ضاربها، وهناك الكثير من العملات التي تحمل صورة الملك أوفا، أو صورة زوجته الملكة "كانثريز".

وقد استخدم هذا النظام في سك النقود في إنجلترا لعدة عصور، ومن الممكن مشاهدة نماذج أخرى من النقود التي تم سكها في عهد هذا الملك في مبحث العملات، وفي مبحث حياة هذا الملك في الموسوعة البريطانية؛ أي أن احتمال عجز هذا الملك عن سك النقود في بلده غير وارد على الإطلاق.

الحقيقة الواضحة هي أن الملك أوفا كان قد اعتنق الإسلام، ولكننا لا نعثر على دليل آخر، ولا على أي وثيقة أخرى عدا هذه النقود، كما لا نعلم شيئًا عن كيفية إسلامه. ويرجع السبب في هذا -كما يقول المؤرخون- إلى أن الكنيسة الإنجليزية قامت بالقضاء على كل الوثائق العائدة لهذا الملك؛ بسبب اعتناقه الإسلام.

هل اعتنق هذا الملك الإسلام وحده، أم مع أفراد عائلته ومع مقربيه؟ هذا ما لا نعرفه ولا نملك حوله أي معلومات حاليًا. والذي نعتقده هو أن هذا الملك قد يكون قد التقى بعض علماء الإسلام عند زيارته لمدينة القدس، فآمن بالإسلام واعتنقه، أو قد يكون قد اتصل بالإسلام عن طريق الأندلس.

والشيء الغريب أنه لا الموسوعة البريطانية ولا الموسوعة الفرنسية "لاروس" تشيران إلى هذه الناحية بل تهملانها تمامًا، وهذا يدعم اعتقاد الذين يرون أنه حتى هذه الموسوعات المعروفة لا تتحلى بالروح العلمية وبالروح الحيادية المفروض توفرها فيها.. ولا نقول حاليًا أكثر من هذا؛ فالحر تكفيه الإشارة. ويا حبذا لو قام المؤرخون المسلمون بدراسة تاريخ هذا الملك، فلا شك أنهم سيصلون إلى نتيجة إيجابية.


تابع القراءة ....